الرد على الوهابية فى بيان اصول قواعد الصوفية
التصوف بكل لغات العالم :
الرد على الوهابية
في نقل كلام الإمام العلامة ناصر السنة في هذا الزمان سيدي السيد أحمد دحلان مفتي الشافعية في مكة المشرفة في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام)، وله كتاب مستقل في الرد على الوهابية. ولكن كلامه في الكتاب المذكور كاف واف شاف، وها أنا أنقله برمته وهو جامع مع كل ما يلزم ذكره في هذا الشأن في إثبات الحق ودحض الأباطيل ورد شبههم بأوضح بيان وأقوى دليل.
قال رحمه الله تعالى -ذكر الشبه التي تتمسك بها الوهابية-، ينبغي أولاً أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبدالوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين، فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم وندائهم له بقولهم يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله إشراك وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين، كقوله تعالى {فلا تدعوا مع الله أحد} وقوله تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقوله تعالى {ولا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} وقوله تعالى {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين} وقوله تعالى {له دعوة الحق? والذي يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} وقوله تعالى {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} وقوله تعالى }قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذور} وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن، كلها حملها على الموحدين، قال محمد بن عبدالوهاب: إن من استغاث أو توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، أو ناداه، أو سأله الشفاعة، فإنه يكون مثل هؤلاء المشركين، ويكون داخلاً في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً مثل ذلك، وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، إن المتوسلين مثل هؤلاء المشركين الذين يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئاً، بل يعتقدون أن الخالق هو الله تعالى، بدليل قوله تعالى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وقوله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} فما حكم الله عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم {ليقربونا إلى الله زلفى}. فهؤلاء مثلهم، هكذا احتج محمد بن عبدالوهاب ومن تبعه على المؤمنين، وهي حجة باطلة، فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء آلهة، وجعلوهم شركاء الله بل هم يعتقدون أنهم عبيد الله مخلوقون له، ولا يعتقدون استحقاقهم العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون نفعاً أو ضر. وإنما قصدوا التبرك بهم لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم، وببركتهم يرحم الله عباده، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة سنذكر لك كثيراً منه. فاعتقاد المسلمين أن الخالق النافع الضار هو الله وحده. ولا يعتقدون استحقاق العبادة إلا الله وحده، ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه.
وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات السابق ذكرها فكانوا يتخذون الأصنام آلهة، والإله معناه المستحق للعبادة فهم يعتقدون استحقاق الأصنام للعبادة فاعتقادهم استحقاقها العبادة هو الذي أوقعهم في الشرك، فلما أقيمت عليهم الحجة فأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فكيف يجوز لمحمد بن عبدالوهاب وأتباعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون أولهية الأصنام إذا علمت هذا تعلم أن جميع الآيات المتقدم ذكرها وما ماثلها من الآيات خاص بالكفار والمشركين ولا يدخل فيها أحد من المؤمنين لأنهم لا يعتقدون ألوهية غير الله تعالى ولايعتقدون استحقاق العبادة لغيره.
وقد تقدم حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين. فهذا الوصف صادق على ابن عبدالوهاب وأتباعه فيما صنعوه، ولو كان شيء مما صنعه المؤمنون من التوسل إشراكاً ما كان يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها فإنهم جميعهم كانوا يتوسلون فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) وهذا توسل صريح لا شك فيه وكان يُعلّم هذا الدعاء أصحابه رضي الله عنهم، ويأمرهم بالإيتان به. فقد روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشرا ولا رياء ولا سمعة خرجت ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك أسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة) ورواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث أبي سعيد بلفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال (اللهم) إلى آخر ما تقدم من رواية ابن السني)، ورواه البيهقي في كتاب الدعوات من حديث أبي سعيد أيضاً ومحل الاستدلال، قوله (بحق السائلين عليك)، فهذا توسل صدر منه صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه أن يقولوه ولميزل السلف من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة ولم ينكر عليهم أحد في الدعاء به.
ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل قوله صلى الله عليه وسلم (اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي) وهذا اللفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم. وصححوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (لما ماتت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها وكانت ربت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها وقال رحمك الله يا أمي بعد أمي وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده وأمره بحفر قبرها قال فلما بلغوا اللحد حفره صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين).
وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه مثل ذلك وكذا روى مثله ابن عبدالبر، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أبونعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه، ذكر ذلك كله الحافظ السيوطي في الجامع الكبير، ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني، بإسناد صحيح عن عثمان بن حنيف، وهو صحابي مشهور رضي الله عنه، أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرتَ وهو خير، قال:فادعه، فزمره أن يتوضأ فليحسن وضوءه ويعدو بهذا الدعاء (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي اللهم شفعه في) فعاد وقد أبصر، وفي رواية قال ابن حنيف (فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضر قط) وخَرَّج هذا الحديث أيضاً البخاري في تاريخه، وابن ماجه والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح، وذكره الجلال السيوطي في الجامع الكبير والصغير، ففي هذا الحديث التوسل والنداء، وابن عبدالوهاب يمنع كلاً منهما ويحكم بكفرمن فعل ذلك، وليس لابن عبدالوهاب أن يقول إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء استعمله أيضاً الصحابة والتابعون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم، فقد روى الطبراني والبيهقي: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف فقال له ائت المبضأة فتوضأ ثم ائت المسجل فصل، ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه، فجاءه البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه، وقال اذكر حاجتك فذكرها فقضاها ثم قال له ما كان لك من حاجة
فاذكرها، ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره- إلى آخر الحديث المتقدم- فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنهم يسقون وليس الاستدلال بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن رؤياه وإن كان حقاً لكن لا تثبت بها الأحكام لإمكان اشتباه الكلام على الرائي لا لشك في الرؤيا وإنما الاستدلال بفعل بلال بن الحارث في اليقظة فإنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإتيانه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ونداؤه له وطلبه أن يستسقي لأمته دليل على أن ذلك جائز وهو من باب التوسل والتشفع والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وذلك من أعظم القربات، وقد توسل به صلى الله عليه وسلم أبوه آدم قبل وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها قال بعض المفسرين في قوله تعالى {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} إن الكلمات هي توسله بالنبي صلى الله عليه وسلم وروى البيهقي بإسناد صحيح في كتابه (دلائل النبوة) الذي قال فيه الحافظ الذهبي. عليك به فإنه كله هدى ونور. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي فقال الله تعالى يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذا سألتني بحقه غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) ورواه أيضاً الحاكم وصححه، والطبراني وزاد فيه (وهو آخر الأنبياء من ذريتك) وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى للخليفة الثاني من بني العباس وهو المنصور جد الخلفاء العباسيين. وذلك أنه لما حج المنصور المذكور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكاً وهو بالمسجد النبوي وقال له يا أبا عبدالله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك. قال تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} ذكره القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح وذكره الإمام السبكي في (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) والسيد السمهودي في (خلاصة الوفا)، والعلامة القسطلاني في (المواهب اللدنية) والعلامة ابن حجر في (تحفة الزوار والجوهر المنظم) وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن حجر في (الجوهر المنظم) رواية ذلك عن الإمام مالك جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه، وقال العلامة الزرقاني في (شرح المواهب) ورواها ابن فهد بإسناد جيد ورواها القاضي عياض في الشفاء بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضاع وكذاب ومراده بذلك الرد على من لم يصدق رواية ذلك عن الإمام مالك، ونسب له كراهية استقبال القبر فنسبة الكراهة إلى الإمام مردودة، واستسقى عمر رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم (رضي الله عنه) لما اشتد القحط عام الرمادة فسقوا، وذلك مذكور في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وذلك من التوسل، بل في المواهب اللدنية للعلامة القسطلاني أن عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا به في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى) ففيه التصريح بالتوسل.
وبهذا يبطل قول من منع التوسل مطلقاً سواء كان بالأحياء أو بالأموات.
وقول من منع ذلك بغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن فعل عمر رضي الله عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وغيره.
وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان) وهذا مثل ما صح في حق علي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (وأدر الحق معه حيث دار) وهو حديث صحيح رواه كثيرمن أصحاب السنن، فكل من عمر وعلي رضي الله عنهما يكون الحق معه حيث كان، وهذان الحديثان من جملة الأدلة التي استدل بها أهل السنة على صحة خلافة الخلفاء الأربعة، لأن علياً رضي الله عنه كان مع الخلفاء الثلاثة قبله لم ينازعهم في الخلافة، فلما جاءت الخلافة له ونازعه غيره قاتله، ومن الأدلة الدالة على أن توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه حجة على جواز التوسل لقوله صلى الله عليه وسلم (لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه الإمام أحمد وغيره عن عقبة بن عامر وغيره، وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود من تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، ليبين للناس أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم جائز ومشروع لا حرج فيه، لأن الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان معلوماً عندهم فلربما يتوهم بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر رضي الله عنه الجواز، ولو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لأفهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يقال إنما استسقى بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الاستسقاء إنما يكون بالحي، لأن هذا القول باطل مردود بأدلة كثيرة- منها توسل الصحابة به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما تقدم في القصة التي رواها عثمان بن حنيف وكما في حديث بلال بن الحارث المتقدم، وكما في توسل آدم الذي رواه عمر رضي الله عنه كما تقدم فكيف يعتقد عدم صحته
بعد وفاته، وقد روى التوسل به قبل وجوده مع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره.
فتلخص من هذا أنه يصح التوسل به صلى الله عليه وسلم قبل وجوده في حياته وبعد وفاته، وأنه يصح التوسل أيضاً بغيره من الأخيار كما فعله عمر رضي الله عنه حين استسقى بالعباس رضي الله عنه، وذلك من أنواع التوسل كما تقدم، وإنما خص عمر العباس رضي الله عنهما من سائر الصحابة لإظهار شرف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبيان أنه يجوز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإن علياً رضي الله عنه كان موجوداً وهو أفضل من العباس رضي الله عنه.
قال بعض العارفين، وفي توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى زيادة على ما تقدم، وهي شفقة عمر رضي الله على الضعفاء المؤمنين وعوامهم، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما تتأخر الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله ومشيئته، فإذا تأخرت الإجابة ربما يقع وسوسة واضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخير الإجابة، بخلاف ما إذا التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا تأخرت الإجابة لا تحصل تلك الوسوسة والاضطراب.
والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث السابقة فإنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضراً إلا لله وحده لا شريك له فلا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير ولا لغيره من الأحياء أو الأموات فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامة عليه وعليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتاً لأنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى، والخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له.
وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول {الله خالق كل شيء} {والله خلقكم وما تعملون} فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات، هم الذين دخل الشرك في توحيدهم، لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات، فهم الذين اعتقدوا تأثير غير الله تعالى فكيف يدعون المحافظة على التوحيد، وينسبون غيرهم إلى الإشراك {سبحانك هذا بهتان عظيم} فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فالمؤثر والموجود حقيقة هوالله تعالى وهؤلاء سبب عادي في ذلك لا تأثير لهم، وذلك مثل السبب العادي فإنه لا تأثير له وحياة الأنبياء في قبورهم ثابتة بأدلة كثيرة استدل بها أهل السنة وكذا حياة الشهداء والأولياء وليس هذا محل بسط الكلام عليها وشبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يتوسعون في الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالي ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ويقولون للولي افعل لي كذا وكذا وربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات ليسوا بأهل لها، ولم يوجد فيهم شيء منها، فإنما أراد هؤلاء المانعين للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة وإن كانوا يعلمون أن العامة لا تعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى، ولا تقصد بالتوسل إلا التبرك ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فيهم تأثير.
فنقول لهم- إذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة، عالمهم وجاهلهم، خاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة وتأمروهم سلوك الأدب في التوسل مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازي مجازاً عقلياً كما يحمل على ذلك قول القائل، هذا الطعام أشبعني وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء أو الطبيب نفعني، فإن ذلك كله عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي فإن الطعام لا يشبع، والمشبع هو الله تعالى والطعام سبب عادي لا تأثير له وكذا ما بعده، فالمسلم الموحد متى صدر منه إسناد الشيء لغير من هو له يجب حمله على المجاز العقلي، وإسلامه وتوحيده قرينة على ذلك ما نص على ذلك علماء المعاني في كتبهم وأجمعوا عليه.
وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها، فهؤلاء المنكرون التوسل المانعون منه- منهم من يجعله حراماً، ومنهم من يجعله كفراً وإشراكاً، وكل ذلك باطل لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على الحرام والاشراك لأن من تتبع كلام الصحابة والعلماء من السلف والخلف يجد التوسل صادراً منهم بل ومن كل مؤمن في أوقات كثيرة واجتماع أكثرهم على الحرام أو الإشراك لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح- (لا تجتمع أمتي على ضلالة). بل قال بعضهم إنه حديث متواتر، وقال تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} فكيف تجتمع كلها أو أكثرها على ضلالة، وهي خير أمة أخرجت للناس فاللائق بهؤلاء المنكرين إذا أرادوا سد الذريعة ومنع الألفاظ الموهمة كما زعموا أن يقولوا- ينبغي أن يكون التوسل بالأدب وبالألفاظ التي ليس فيها إيهام، كأن يقول المتوسل- اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء قبله وبعبادك الصالحين أن تفعل بي كذا وكذا، لا أنهم يمنعون التوسل مطلقاً ولا أن يتجاسروا على تكفير المسلمين الموحدين الذين لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده لا شريك له ومما تمسك به هؤلاء المنكرون للتوسل قوله تعالى {لا تجعلوا دعاءالرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض} فإن الله نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً- كأن ينادوه باسمه، وقياساً على ذلك لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى، كالأنبياء والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى لئلا تحصل المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر وإن كان الطلب من الله تعالى على سبيل التأثير والإيجاد من غيره على سبيل التسبب والكسب لكنه ربما يوهم تأثير غير الله تعالى فمنع من ذلك الطلب لدفع هذا الإيهام.
والجواب أن هذا لا يقتضي المنع من التوسل مطلقاً ولا يقتضي منع الطلب إذا صدر من موحد فإنه يحمل على المجاز العقلي بقرينة صدوره من موحد فما وجه كونه حراماً أو شركاً؟ فلوا قالوا إنه خلاف الأدب وأجازوا التوسل وشرطوا فيه أن يكون بالأدب والاحتراز عن الألفاظ الموهمة لكان له وجه، فالمنع مطلقاً لا وجه له.
ومن الأدلة الدالة على صحة التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما ذكره العلامة السيد السمهودي في خلاصة الوفا حيث قال روى الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال- قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. قال العلامة المراغي- وفتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة يفتحون كوة في أسفل الحجرة وإن كان السقف حائلاً بين القبر الشريف والسماد قال السيد السمهودي وسنتهم اليوم فتح الباب المواجهة للوجه الشريف والاجتماع هناك، وليس القصد إلا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به إلي ربه لرفعة قدره عند الله تعالى وقال أيضاً العلامة السيد السمهودي في خلاصةالوفا- إن التوسل والتشفع به صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته من سنن المرسلين وسيرة السلف الصالحين، وذكركثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك عند ذكرهم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسن للزائر أن يستقبل القبر الشريف ويتوسل إلى الله تعالى في غفران ذنوبه وقضاء حاجته ويستشفع به صلى الله عليه وسلم وقالوا- ومن أحسن ما يقول ما جاء عن العتبي، وهو مروي أيضاً عن أبي سفيان بن عيينة وكل منهما من مشايخ الشافعي رضي الله عنه ثم بعد أن ذكر قصة العتبي المشهورة قال وليس محل الاستدلال الرؤيا فإنها لاتثبت بها أحكام لاحتمال حصول الاشتباه على الرائي، وإنما محل الاستدلال كون العلماء استحسنوا للزائر الاتيان بما قاله الأعرابي.
قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم، روى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمي بنفسه على القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام وحثى من ترابه على رأسه وقال يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله ما وعينا عنك وكان فيما أنزله عليك قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربي، فنودي من القبر الشريف أن قد غفر لك، وجاء ذلك عن علي أيضاً من طريق أخرى ويؤيد ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم) ومما ذكره العلماء في آداب الزيارة أنه يستحب أن يجدد الزائر التوبة في ذلك الموقف الشريف ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها توبة نصوحاً ويستشفع به صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل في قبولها ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} ويقولون نحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا وأظلم قلوبنا فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله فاستغفر لنا واشفع لنا عند ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا ويحشرنا في زمرة عباده الصالحين والعلماء والعاملين.
الرد على الوهابية
في نقل كلام الإمام العلامة ناصر السنة في هذا الزمان سيدي السيد أحمد دحلان مفتي الشافعية في مكة المشرفة في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام)، وله كتاب مستقل في الرد على الوهابية. ولكن كلامه في الكتاب المذكور كاف واف شاف، وها أنا أنقله برمته وهو جامع مع كل ما يلزم ذكره في هذا الشأن في إثبات الحق ودحض الأباطيل ورد شبههم بأوضح بيان وأقوى دليل.
قال رحمه الله تعالى -ذكر الشبه التي تتمسك بها الوهابية-، ينبغي أولاً أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبدالوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين، فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم وندائهم له بقولهم يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله إشراك وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين، كقوله تعالى {فلا تدعوا مع الله أحد} وقوله تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقوله تعالى {ولا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} وقوله تعالى {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين} وقوله تعالى {له دعوة الحق? والذي يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} وقوله تعالى {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} وقوله تعالى }قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذور} وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن، كلها حملها على الموحدين، قال محمد بن عبدالوهاب: إن من استغاث أو توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، أو ناداه، أو سأله الشفاعة، فإنه يكون مثل هؤلاء المشركين، ويكون داخلاً في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً مثل ذلك، وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، إن المتوسلين مثل هؤلاء المشركين الذين يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئاً، بل يعتقدون أن الخالق هو الله تعالى، بدليل قوله تعالى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وقوله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} فما حكم الله عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم {ليقربونا إلى الله زلفى}. فهؤلاء مثلهم، هكذا احتج محمد بن عبدالوهاب ومن تبعه على المؤمنين، وهي حجة باطلة، فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء آلهة، وجعلوهم شركاء الله بل هم يعتقدون أنهم عبيد الله مخلوقون له، ولا يعتقدون استحقاقهم العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون نفعاً أو ضر. وإنما قصدوا التبرك بهم لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم، وببركتهم يرحم الله عباده، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة سنذكر لك كثيراً منه. فاعتقاد المسلمين أن الخالق النافع الضار هو الله وحده. ولا يعتقدون استحقاق العبادة إلا الله وحده، ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه.
وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات السابق ذكرها فكانوا يتخذون الأصنام آلهة، والإله معناه المستحق للعبادة فهم يعتقدون استحقاق الأصنام للعبادة فاعتقادهم استحقاقها العبادة هو الذي أوقعهم في الشرك، فلما أقيمت عليهم الحجة فأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فكيف يجوز لمحمد بن عبدالوهاب وأتباعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون أولهية الأصنام إذا علمت هذا تعلم أن جميع الآيات المتقدم ذكرها وما ماثلها من الآيات خاص بالكفار والمشركين ولا يدخل فيها أحد من المؤمنين لأنهم لا يعتقدون ألوهية غير الله تعالى ولايعتقدون استحقاق العبادة لغيره.
وقد تقدم حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين. فهذا الوصف صادق على ابن عبدالوهاب وأتباعه فيما صنعوه، ولو كان شيء مما صنعه المؤمنون من التوسل إشراكاً ما كان يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها فإنهم جميعهم كانوا يتوسلون فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) وهذا توسل صريح لا شك فيه وكان يُعلّم هذا الدعاء أصحابه رضي الله عنهم، ويأمرهم بالإيتان به. فقد روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشرا ولا رياء ولا سمعة خرجت ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك أسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة) ورواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث أبي سعيد بلفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال (اللهم) إلى آخر ما تقدم من رواية ابن السني)، ورواه البيهقي في كتاب الدعوات من حديث أبي سعيد أيضاً ومحل الاستدلال، قوله (بحق السائلين عليك)، فهذا توسل صدر منه صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه أن يقولوه ولميزل السلف من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة ولم ينكر عليهم أحد في الدعاء به.
ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل قوله صلى الله عليه وسلم (اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي) وهذا اللفظ قطعة من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم. وصححوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (لما ماتت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها وكانت ربت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها وقال رحمك الله يا أمي بعد أمي وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده وأمره بحفر قبرها قال فلما بلغوا اللحد حفره صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين).
وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه مثل ذلك وكذا روى مثله ابن عبدالبر، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أبونعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه، ذكر ذلك كله الحافظ السيوطي في الجامع الكبير، ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني، بإسناد صحيح عن عثمان بن حنيف، وهو صحابي مشهور رضي الله عنه، أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرتَ وهو خير، قال:فادعه، فزمره أن يتوضأ فليحسن وضوءه ويعدو بهذا الدعاء (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي اللهم شفعه في) فعاد وقد أبصر، وفي رواية قال ابن حنيف (فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضر قط) وخَرَّج هذا الحديث أيضاً البخاري في تاريخه، وابن ماجه والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح، وذكره الجلال السيوطي في الجامع الكبير والصغير، ففي هذا الحديث التوسل والنداء، وابن عبدالوهاب يمنع كلاً منهما ويحكم بكفرمن فعل ذلك، وليس لابن عبدالوهاب أن يقول إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء استعمله أيضاً الصحابة والتابعون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم، فقد روى الطبراني والبيهقي: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف فقال له ائت المبضأة فتوضأ ثم ائت المسجل فصل، ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه، فجاءه البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه، وقال اذكر حاجتك فذكرها فقضاها ثم قال له ما كان لك من حاجة
فاذكرها، ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره- إلى آخر الحديث المتقدم- فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنهم يسقون وليس الاستدلال بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن رؤياه وإن كان حقاً لكن لا تثبت بها الأحكام لإمكان اشتباه الكلام على الرائي لا لشك في الرؤيا وإنما الاستدلال بفعل بلال بن الحارث في اليقظة فإنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإتيانه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ونداؤه له وطلبه أن يستسقي لأمته دليل على أن ذلك جائز وهو من باب التوسل والتشفع والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وذلك من أعظم القربات، وقد توسل به صلى الله عليه وسلم أبوه آدم قبل وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها قال بعض المفسرين في قوله تعالى {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} إن الكلمات هي توسله بالنبي صلى الله عليه وسلم وروى البيهقي بإسناد صحيح في كتابه (دلائل النبوة) الذي قال فيه الحافظ الذهبي. عليك به فإنه كله هدى ونور. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي فقال الله تعالى يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذا سألتني بحقه غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) ورواه أيضاً الحاكم وصححه، والطبراني وزاد فيه (وهو آخر الأنبياء من ذريتك) وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى للخليفة الثاني من بني العباس وهو المنصور جد الخلفاء العباسيين. وذلك أنه لما حج المنصور المذكور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكاً وهو بالمسجد النبوي وقال له يا أبا عبدالله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك. قال تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} ذكره القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح وذكره الإمام السبكي في (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) والسيد السمهودي في (خلاصة الوفا)، والعلامة القسطلاني في (المواهب اللدنية) والعلامة ابن حجر في (تحفة الزوار والجوهر المنظم) وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن حجر في (الجوهر المنظم) رواية ذلك عن الإمام مالك جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه، وقال العلامة الزرقاني في (شرح المواهب) ورواها ابن فهد بإسناد جيد ورواها القاضي عياض في الشفاء بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضاع وكذاب ومراده بذلك الرد على من لم يصدق رواية ذلك عن الإمام مالك، ونسب له كراهية استقبال القبر فنسبة الكراهة إلى الإمام مردودة، واستسقى عمر رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم (رضي الله عنه) لما اشتد القحط عام الرمادة فسقوا، وذلك مذكور في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وذلك من التوسل، بل في المواهب اللدنية للعلامة القسطلاني أن عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا به في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى) ففيه التصريح بالتوسل.
وبهذا يبطل قول من منع التوسل مطلقاً سواء كان بالأحياء أو بالأموات.
وقول من منع ذلك بغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن فعل عمر رضي الله عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وغيره.
وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان) وهذا مثل ما صح في حق علي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (وأدر الحق معه حيث دار) وهو حديث صحيح رواه كثيرمن أصحاب السنن، فكل من عمر وعلي رضي الله عنهما يكون الحق معه حيث كان، وهذان الحديثان من جملة الأدلة التي استدل بها أهل السنة على صحة خلافة الخلفاء الأربعة، لأن علياً رضي الله عنه كان مع الخلفاء الثلاثة قبله لم ينازعهم في الخلافة، فلما جاءت الخلافة له ونازعه غيره قاتله، ومن الأدلة الدالة على أن توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه حجة على جواز التوسل لقوله صلى الله عليه وسلم (لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه الإمام أحمد وغيره عن عقبة بن عامر وغيره، وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود من تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، ليبين للناس أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم جائز ومشروع لا حرج فيه، لأن الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان معلوماً عندهم فلربما يتوهم بعض الناس أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر رضي الله عنه الجواز، ولو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لأفهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يقال إنما استسقى بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الاستسقاء إنما يكون بالحي، لأن هذا القول باطل مردود بأدلة كثيرة- منها توسل الصحابة به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما تقدم في القصة التي رواها عثمان بن حنيف وكما في حديث بلال بن الحارث المتقدم، وكما في توسل آدم الذي رواه عمر رضي الله عنه كما تقدم فكيف يعتقد عدم صحته
بعد وفاته، وقد روى التوسل به قبل وجوده مع أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره.
فتلخص من هذا أنه يصح التوسل به صلى الله عليه وسلم قبل وجوده في حياته وبعد وفاته، وأنه يصح التوسل أيضاً بغيره من الأخيار كما فعله عمر رضي الله عنه حين استسقى بالعباس رضي الله عنه، وذلك من أنواع التوسل كما تقدم، وإنما خص عمر العباس رضي الله عنهما من سائر الصحابة لإظهار شرف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبيان أنه يجوز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإن علياً رضي الله عنه كان موجوداً وهو أفضل من العباس رضي الله عنه.
قال بعض العارفين، وفي توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى زيادة على ما تقدم، وهي شفقة عمر رضي الله على الضعفاء المؤمنين وعوامهم، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما تتأخر الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله ومشيئته، فإذا تأخرت الإجابة ربما يقع وسوسة واضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخير الإجابة، بخلاف ما إذا التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا تأخرت الإجابة لا تحصل تلك الوسوسة والاضطراب.
والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث السابقة فإنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضراً إلا لله وحده لا شريك له فلا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير ولا لغيره من الأحياء أو الأموات فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامة عليه وعليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصالحين لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتاً لأنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى، والخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له.
وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول {الله خالق كل شيء} {والله خلقكم وما تعملون} فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات، هم الذين دخل الشرك في توحيدهم، لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات، فهم الذين اعتقدوا تأثير غير الله تعالى فكيف يدعون المحافظة على التوحيد، وينسبون غيرهم إلى الإشراك {سبحانك هذا بهتان عظيم} فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فالمؤثر والموجود حقيقة هوالله تعالى وهؤلاء سبب عادي في ذلك لا تأثير لهم، وذلك مثل السبب العادي فإنه لا تأثير له وحياة الأنبياء في قبورهم ثابتة بأدلة كثيرة استدل بها أهل السنة وكذا حياة الشهداء والأولياء وليس هذا محل بسط الكلام عليها وشبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة يتوسعون في الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالي ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ويقولون للولي افعل لي كذا وكذا وربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً ومقامات ليسوا بأهل لها، ولم يوجد فيهم شيء منها، فإنما أراد هؤلاء المانعين للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة وإن كانوا يعلمون أن العامة لا تعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى، ولا تقصد بالتوسل إلا التبرك ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فيهم تأثير.
فنقول لهم- إذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة، عالمهم وجاهلهم، خاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة وتأمروهم سلوك الأدب في التوسل مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازي مجازاً عقلياً كما يحمل على ذلك قول القائل، هذا الطعام أشبعني وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء أو الطبيب نفعني، فإن ذلك كله عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي فإن الطعام لا يشبع، والمشبع هو الله تعالى والطعام سبب عادي لا تأثير له وكذا ما بعده، فالمسلم الموحد متى صدر منه إسناد الشيء لغير من هو له يجب حمله على المجاز العقلي، وإسلامه وتوحيده قرينة على ذلك ما نص على ذلك علماء المعاني في كتبهم وأجمعوا عليه.
وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته في الأحاديث الصحيحة وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها، فهؤلاء المنكرون التوسل المانعون منه- منهم من يجعله حراماً، ومنهم من يجعله كفراً وإشراكاً، وكل ذلك باطل لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على الحرام والاشراك لأن من تتبع كلام الصحابة والعلماء من السلف والخلف يجد التوسل صادراً منهم بل ومن كل مؤمن في أوقات كثيرة واجتماع أكثرهم على الحرام أو الإشراك لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح- (لا تجتمع أمتي على ضلالة). بل قال بعضهم إنه حديث متواتر، وقال تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} فكيف تجتمع كلها أو أكثرها على ضلالة، وهي خير أمة أخرجت للناس فاللائق بهؤلاء المنكرين إذا أرادوا سد الذريعة ومنع الألفاظ الموهمة كما زعموا أن يقولوا- ينبغي أن يكون التوسل بالأدب وبالألفاظ التي ليس فيها إيهام، كأن يقول المتوسل- اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء قبله وبعبادك الصالحين أن تفعل بي كذا وكذا، لا أنهم يمنعون التوسل مطلقاً ولا أن يتجاسروا على تكفير المسلمين الموحدين الذين لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده لا شريك له ومما تمسك به هؤلاء المنكرون للتوسل قوله تعالى {لا تجعلوا دعاءالرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض} فإن الله نهى المؤمنين في هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً- كأن ينادوه باسمه، وقياساً على ذلك لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى، كالأنبياء والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى لئلا تحصل المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر وإن كان الطلب من الله تعالى على سبيل التأثير والإيجاد من غيره على سبيل التسبب والكسب لكنه ربما يوهم تأثير غير الله تعالى فمنع من ذلك الطلب لدفع هذا الإيهام.
والجواب أن هذا لا يقتضي المنع من التوسل مطلقاً ولا يقتضي منع الطلب إذا صدر من موحد فإنه يحمل على المجاز العقلي بقرينة صدوره من موحد فما وجه كونه حراماً أو شركاً؟ فلوا قالوا إنه خلاف الأدب وأجازوا التوسل وشرطوا فيه أن يكون بالأدب والاحتراز عن الألفاظ الموهمة لكان له وجه، فالمنع مطلقاً لا وجه له.
ومن الأدلة الدالة على صحة التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما ذكره العلامة السيد السمهودي في خلاصة الوفا حيث قال روى الدارمي في صحيحه عن أبي الجوزاء قال- قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. قال العلامة المراغي- وفتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة يفتحون كوة في أسفل الحجرة وإن كان السقف حائلاً بين القبر الشريف والسماد قال السيد السمهودي وسنتهم اليوم فتح الباب المواجهة للوجه الشريف والاجتماع هناك، وليس القصد إلا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به إلي ربه لرفعة قدره عند الله تعالى وقال أيضاً العلامة السيد السمهودي في خلاصةالوفا- إن التوسل والتشفع به صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته من سنن المرسلين وسيرة السلف الصالحين، وذكركثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك عند ذكرهم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسن للزائر أن يستقبل القبر الشريف ويتوسل إلى الله تعالى في غفران ذنوبه وقضاء حاجته ويستشفع به صلى الله عليه وسلم وقالوا- ومن أحسن ما يقول ما جاء عن العتبي، وهو مروي أيضاً عن أبي سفيان بن عيينة وكل منهما من مشايخ الشافعي رضي الله عنه ثم بعد أن ذكر قصة العتبي المشهورة قال وليس محل الاستدلال الرؤيا فإنها لاتثبت بها أحكام لاحتمال حصول الاشتباه على الرائي، وإنما محل الاستدلال كون العلماء استحسنوا للزائر الاتيان بما قاله الأعرابي.
قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم، روى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمي بنفسه على القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام وحثى من ترابه على رأسه وقال يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله ما وعينا عنك وكان فيما أنزله عليك قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربي، فنودي من القبر الشريف أن قد غفر لك، وجاء ذلك عن علي أيضاً من طريق أخرى ويؤيد ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم) ومما ذكره العلماء في آداب الزيارة أنه يستحب أن يجدد الزائر التوبة في ذلك الموقف الشريف ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها توبة نصوحاً ويستشفع به صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل في قبولها ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} ويقولون نحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا وأظلم قلوبنا فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله فاستغفر لنا واشفع لنا عند ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا ويحشرنا في زمرة عباده الصالحين والعلماء والعاملين.