في قصرهم الوسيلة على أنواع العبادات



التصوف بكل لغات العالم : 
في قصرهم الوسيلة على أنواع العبادات
فانظر يا أخي: فلست أدري من أين لهم قصرهم الوسيلة على العبادة فحسب بعد اطلاق الحق عز وجل في قوله تعالى بعد أمره لعباده بالتقوى وملازمتهم لها لا ينسوا الوسيلة {وابتغوا إليه الوسيلة} وقد عرفهم بأنهم في دنيا الأسباب التي لا يتأتي فيها حصول شيء إلا بالأسباب، وكل الأسباب والمسببات من نعمه تعالى وعظيم قدرته وبديع صنعته، وأمرهم بأن يأخذوا بها ويعملوا ببيانه الحكيم وإرشاد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلست أدري ما حقيق عقول هؤلاء الذين لا يفقهون ولا يتفقهون ويقولون: قال الله تعالى {ادعوني استجب لكم} أليس قول عز من قائل ادعوني هو عين الوسيلة إليه جل وعلا (وإذا سألت فاسأل الله) الحديث هو عين الوسيلة، لأن الدعاء والسؤال هو عين الوسيلة لمن ترجو منه حاجتك وهو الدين. وقد قدمنا من تفسير الكشاف وقال العلامة أبوحيان في تفسيره البحر ولذا تفسير النهر: الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها أو الحاجة أو الطاعة أو الجنة أو أفضل درجاته. فكيف يقصرها على العبادة فكأن الرغيف من الخبز الذي يعيش به، والماء ليس بوسيلة. وقد قال الإمام الفخر: اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله تعالى {اتقوا الله} وثانيهما: فعل المأمورات وإليه الإشارة بقوله تعالى {وابتغوا إليه الوسيلة} ولما كان ترك المنهيات مقدماً على فعل المأمورات بالذات لا جرَمَ قدمه تعالى عليه في الذكر، وإنما قلنا أن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي والفعل هو الإيقاع والتحصيل، ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجوده. فكانت تركاً قبل الفعل لا محالة.
فإن قيل: ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى الله تعالى؟ قلنا الترك ابقاء الشيء على عدمه الأصلي وذلك المقدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى الشيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة بل من دعاة داعي الشهوة إلى فعل قبيح ثم تركه لمطلب مرضاة الله تعالى فها هنا يحصل التوسل بذلك الامتناع إلى الله تعالى إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال ولهذا قال المحققون ترك الشيء عبارة عن فعل ضده كما وقع في حديث الثلاثة الذين أووا غاراً: يرويه أصحاب السنن والمسانيد.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال، فالذي يجب تركه هو المحرمات، والذي يجب فعله هو الواجبات. ومعتبران أيضاً في الأخلاق فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة، والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة.
ومعتبران أيضاً في الأفكار، فالذي يجب فعله هو التفكير في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات. ومعتبران أيضاً في مقام التحلي فالفعل هو الاستغراق في الله تعالى وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية وبالمحو والصحو وبالنفي والإثبات وبالفناء والبقاء، وفي جميع المقامات النفي مقدم على الإثبات، ولذلك كان قولنا لا إله إلا الله النفي مقدم فيه على الإثبات والوسيلة فعليه، من وصل إليه إذا تقرب إليه. قال لبيد الشاعر:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمورهم إلا كل ذي لب إلى الله واسل
أي متوسل. فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود أ هـ منه.
وقال العلامة الألوسي في تفسيره: الوسيلة ملاك الأمر كله، فهي الذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة وأنشد له قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فكيف بعد هذا الذي ظهر من بيان عقلاء المسلمين في معنى تعميم الحق عز وجل لأنواع الوسيلة يقصرونها هم على أنها بمعنى العبادة فقط. ما هو إلا تعصب وجهالة، خصوصاً قولهم لا توسل وأن الله ليس في احتياج إلى الوسيلة وغاية أمرهم انكارهم على المتوسلين بعباد الله الصالحين ولم يفطنوا لقول رب العالمين {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} فلم يعب الحق عز وجل عليهم الوسيلة بالغائب المنتظر بل عاب عليهم في إنكارهم عليه وعدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم أو لم يقرأوا قوله تعالى {ألم تر إلى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملك} الآيات، إذا الجماعات من بني اسرائيل لما سألوا نبيهم هل كفروا على زعمهم الباطل: سنوضح ذلك ونبين لهم ما يخزيهم.