طبقات الأولياء : الرجال عالم الأنفاس رضي الله عنهم
التصوف بكل لغات العالم :
(وأما الرجال عالم الأنفاس رضي الله عنهم)
فأنا أذكرهم وهم على قلب داود عليه السلام لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان وإنما نسبناهم إلى قلب داود وقد كانوا موجودين قبل ذلك بهذه الصفة- فالمراد بذلك أنه ما تفرق فيهم من الأحوال والعلوم والمراتب اجتمع في داود ولقيت هؤلاء العالم كلهم ولازمتهم وانتفعت بهم. وهم على مراتب لا يتعدونها بعدد مخصوص لايزيد ولا ينقص. وأنا أذكرهم إن شاء الله تعالى:
أ- (فمنهم رضي الله عنهم: رجال الغيب)
وهم عشرة لا يزيدون ولا ينقصون هم أهل خشوع فلا يتكلمون إلا همساً لغلبة تجلي الرحمن عليهم دائماً في أحوالهم. قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} وهؤلاء هم المستورون الذين لا يعرفون، خبأهم الحق في أرضه وسمائه فلا يناجون سواه ولا يشهدون غيره {يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}.
دأبهم الحياء إذا سمعوا أحداً يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجبون، واعلم أن لفظ رجال الغيب في اصطلاح أهل الله يطلقونه يريدون به هؤلاء الذين ذكرناهم وهي هذه الطبقة وقد يطلقونه ويريدون به من يحتجب عن الأبصار من الإنس، وقد يطلقونه أيضاً ويريدون به رجالاً من الجن من صالحي مؤمنينهم. وقد يطلقونه على القوم الذي لا يأخذون شيئاً من العلم والرزق المحسوس من الحس ولكن يأخذونه من الغيب.
ب- (ومنهم رضي الله عنهم: ثمانية عشر نفساً أيض. هم الظاهرون بأمر الله عن أمر الله)
لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان، ظهورهم بالله قائمون بحقوق الله مثبتون الأسباب، العوائدُ لهم عادةٌ، آيتهم {قل الله ثم ذرهم} وأيضاً {إني دعوتكم جهاراً}، كان منهم شيخنا أبومدين رحمه الله تعالى كان يقول لأصحابه: أظهروا للناس ما عندكم من الموافق كما يظهر الناس بالمخالفة، وأظهروا ما أعطاكم الله من نعمه الظهرة (يعني خرق العوائد) والباطنة (يعني المعارف) فإن الله يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} وقال عليه الصلاة والسلام: (التحدث بالنعمة شكر).
ج- (ومنهم رضي الله عنهم: ثمانية رجال يقال لهم رجال القوة الإلهية)
آيتهم من كتاب الله {أشداء على الكفار} لهم من الأسماء الإلهية (ذو القوة المتين) لا تأخذهم في الله لومة لائم، وقد يسمون رجال القهر، لهم همم فعالة في النفوس وبهذا يعرفون. كان بمدينة فاس منهم رجل واحد يقال له أبوعبدالله الدقاق، كان يقول: (ما اغتبت أحداً قط، ولا أغتيب بحضرتي أحد قط). قال سيدي محيي الدين ولقيت أنا منهم ببلاد الأندلس جماعة ولقيت أنا منهم أثر عجيب ومعنى غريب وكان بعض شيوخي منهم.
(ومن نمط هؤلاء رضي الله عنهم خمسة رجال) في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون هم على قدم هؤلاء الثمانية في القوة غير أن فيهم ليناً ليس في الثمانية وهم على قدم الرسل في هذا المقام، آيتهم قوله تعالى {فقولا قولاً ليناً} وقوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم} فهم مع قوتهم لهم لين في بعض المواطن. أما في العزائم فهم على قوة الثمانية على السواء ويزيدون عليهم بما ذكرناه مما ليس للثمانية. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه وقد لقينا منهم رضي الله عنهم وانتفعنا بهم.
د- (ومنهم رضي الله عنهم: خمسة عشر نفساً)
هم رجال الحنان والعطف الإلهي آيتهم آية الريح السليمانية {تجري بأمره رخاء حيث أصاب} لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون الخلق بعين الجود والوجود، لا بعين الحكم والقضاء، لا يولي الله قط منهم أحداً ولاية ظاهرة من قضاء أو ملك لأن ذوقهم ومقامهم لا يحتمل القيام بأمر الخلق فهم مع الخلق في الرحمة المطلقة التي قال الله تعالى فيها {ورحمتي وسعت كل شيء} ولقيت منهم جماعة وماشيتهم على هذا القدم.
هـ- (ومنهم رضي الله عنهم: أربعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} وآيتهم أيضاً في سورة الملك {الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} هم رجال الهيبة والجلال.
كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم لا خوف ظلم ولكن خوف اجلال
وهم الذين يمدون الأوتاد، الغالب على أحوالهم الروحانية، قلوبهم سماوية، مجهولون في الأرض، معروفون في السماء. أحدهم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والآخر على قلب شعيب عليه السلام، والثالث على قلب صالح عليه السلام، والرابع على قلب هود عليه السلام، ينظر إلى أحدهم من الملأ الأعلى عزرائيل، وإلى الآخر جبريل. وإلى الآخر ميكائيل. وإلى الآخر اسرافيل. شأنهم عجيب وأمرهم غريب. قال سيدي محيي الدين ما لقيت فيمن لقيت مثلهم، لقيتهم بدمشق فعرفت أنهم هم وقد كنت رأيتهم ببلاد الأندلس واجتمعوا بي ولكن لم أكن أعلم أن لهم هذا المقام، بل كانوا عندي من جملة عباد الله، فشكرت الله على أن عرفني بمقامهم وأطلعني على حالهم.
و- (ومنهم رضي الله عنهم: أربعة وعشرون نفساً في كل زمان يسمون رجال الفتح)
لا يزيدون ولا ينقصون، بهم يفتح الله على قلوب أهل الله ما يفتحه من المعارف والأسرار جعلهم الله على عدد الساعات، لكل ساعة رجل منهم، فكل من يفتح عليه في شيء من العلوم والمعارف في أي ساعة كانت من ليل أو نهار فهو لرجل تلك الساعة، وهم متفرقون في الأرض ولا يجتمعون أبداً، كل شخص منهم لازمٌ مكانه لا يبرح أبداً، فمنهم باليمن اثنان، ومنهم ببلاد الشرق أربعة، ومنهم بالمغرب ستة، والباقي بسائر الجهات، آيتهم من كتاب الله {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}.
ز- (ومنهم رضي الله عنهم: سبعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، رجال المعارج العلا، لهم في كل نفس معراج، وهم أعلى عالم الأنفاس. أي الأولياء أصحاب المراتب، آيتهم من كتاب الله تعالى {وأنتم الأعلون والله معكم} يتخيل بعض الناس من أهل الطريق أنهم الأبدال لما يرى أنهم سبعة كما يتخيل بعض الناس في الرجبيين أنهم الأبدال لكونهم أربعين عند من يقول أن الأبدال أربعون نفس. ومنهم من يقول سبعةأنفس. وسبب ذلك أنهم لم يقع لهم التعريف من الله بذلك، ولا بعددٍ ما، ولله في العالم في كل زمان من الرجال المصطفين الذين يحفظ الله بهم العالم فيسمعون أن ثم رجالاً عددهم كذا، كما أن ثم أيضاً مراتب محفوظة لا عدد لأصحابها معين في كل زمان- بل يزيد وينقصون كالأفراد، ورجال الماء، والأمناء والأحباء، والأخلاء، وأهل الله، والمحدثين والسمراء، والأصفياء، وهم المصطفون، فكل مرتبة من هذه المراتب محفوظة برجال في كل زمان، غير أنهم لا يتقيدون بعدد مخصوص مثل من ذكرناهم.
ج- (ومنهم رضي الله عنهم: أحد وعشرون نفساً وهم رجال التحت الأسفل)
وهم أهل النفس الذي يتلقونه من الله لا معرفة لهم بالنفس الخارج عنهم، وهم على هذا العدد في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله تعالى {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد تعالي عالم الطبيعة إذا لا أسفل منه، رده إليه ليحيا به فإن الطبع ميت بالأصالة فأحياه بها النفس الرحماني الذي رده إليه وهؤلاء الرجال لا نظر لهم إلا فيما يَرِدُ من عند الله مع الأنفاس فهم أهل حضور على الدوام.
ط- (ومنهم رضي الله عنهم: ثلاثة أنفس)
وهم رجال الامداد الإلهي والكوني في كل زمان لايزيدون ولا ينقصون فهم يستمدون من الحق ويمدون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة لا بعنف ولا شدة ولا قهر يقبلون على الله بالاستفادة، ويقبلون على الخلق بالإفادة، فيهم رجال ونساء قد أهلهم الله للسعي في حوائج الناس وقضائها عند الله لا عند غيره وهم ثلاثة قال سيدي محيي الدين لقيت واحداً منهم بأشبيلية وهو من أكبر من لقيته يقال له موسى بن عمران، سيد وقته كان أحد الثلاثة لم يسأل أحداً حاجة من خلق الله. وقد ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تقبل لي بواحدة تقبلت له بالجنة أنلا يسأل أحداً شيئاً).
وصفة هؤلاء إذا أفادواالخلق ترى فيهم من اللطف وحسن التأني حتى يظن أنهم هم الذين يستفيدون من الخلق. وأن الخلق هم الذين لهم اليد عليهم ما رأيت أحسن منهم في معاملة الناس.
ي- (ومنهم رضي الله عنهم: ثلاثة أنفس إلهيون رحمانيون في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، يُشبهونَ الأبدال في بعض الأحوال وليسوا بأبدال آيتهم من كتاب الله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} لهم اعتقاد عجيب في كلام الله بين الاعتقاديين. هم أهل وحي إلهي لا يسمعونه أبداً إلا كسلسلة على صفوان، لا غير ذلك، ومثل صلصلة الجرس هذا مقام هؤلاء القوم.
ك- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد وقد تكون امرأة في كل زمان)
آيته {وهو القاهر فوق عباده} له الاستطالة على كل شيء سوى الله شهم شجاع مقدام كثير الدعوى بحق يقول حقاً ويحكم عدل. قال سيدي محيي الدين كان صاحب هذا المقام شيخنا عبدالقادر الجيلي ببغداد كانت له الصولة والاستطالة بحق على الخق كان كبير الشأن أخباره مشهورة لم ألقه ولكن لقيت صاحب زماننا في هذا المقام، ولكن كان عبدالقادر أتم في أمور أخر من هذا الشخص الذي لقيته، وقد درج الآخر ولا علم لي بمن وليَّ بعده هذا المقام إلى الآن.
ل- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد مركب ممتزج في كل زمان)
لا يوجد غيره في مقامه وهو يشبه عيسى عليه السلام متولد بين الروح والبشر ولا يعلم له أب بشري كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجن والإنس فهو مركب من جنسين مختلفين، وهو رجل البرزخ به يحفظ الله تعالى عالم البرزخ دائماً فلا يخلوا كل زمان عن واحد مثل هذا الرجل يكون مولده على هذه الصفة فهو مخلوق من ماء أمه خلافاً لما ذكره أهل علم الطبائع أنه لا يتكون من ماء المرأة ولد، بل الله على كل شيء قدير.
م- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد وقد يكون امرأة)
له دقائق ممتدة إلى جميع العالم وهو شخص غريب المقام لا يوجد منهم في كل زمان إلا واحد يلتبس على بعض أهل الطريق ممن يعرفه بحالة القطب، فيتخيل أنه القطب وليس بالقطب.
ن- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل يسمى بمقامه سقيط الرفرف ابن ساقط العرش)
قال سيدي محيي الدين:لقيته بقونية آيته من كتاب الله {والنجم إذا هوى} حاله لا يتعداه، شغله بنفسه وبربه، كبير الشأن عظيم الحال، رؤيته مؤثرة في حال من يراه، فيه انكسار، هكذا شاهدته صاحب انكسار وذل، أعجبتني صفته، له لسان في المعارف، شديد الحياء.
س- (ومنهم رضي الله عنهم: رجلان يقال لهما رجال الغنى بالله)
في كل زمان من عالم الأنفاس أي الأولياء أصحاب المراتب كما تقدم، آيتهما من كتاب الله {والله غني عن العالمين} يحفظ الله بهما هذا المقام، للواحد منهما إمداد عالم الشهادة فكل غني في عالم الشهادة فمن هذا الرجل، وللآخر منهما إمداد عالم المكلوت فكل غنى بالله في عالم المكلوت فمن هذا الرجل، والذي يستمدان منه (هذان الرجلان) روح علوي متحقق بالحق غِناهُ الله ما هو غناه بالله، فإن أضفته إليهما فرجال الغني ثلاثة وإن نظرت إلى بشريتهما، فرجال الغنى اثنان، وقد يكون منهم النساء فغني بالنفس وغني بالله وغني غناه الله، قال سيدي محيي الدين: ولنا جزء لطيف في معرفة هؤلاء الرجال الثلاثة رضي الله عنهم.
ع- (ومنهم رضي الله عنهم: شخص واحد يتكرر بقلبه في كل نفس)
لا ترى في الرجال أعجب منه حالاً، وليس في أهل المعرفة بالله أكبر معرفة من صاحب هذا المقام، يخشى الله ويتقيه، تحققت به ورأيته وأفادني. آيته من كتاب الله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقوله تعالى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} لا يزال ترعد فرائصه من خشية الله هكذا شاهدناه.
ف- (ومنهم رضي الله عنهم: رجال عين التحكيم والزوائد وهم عشرة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء، وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين في تحصيل ذلك الغيب، فلا يكون لهم غيب. إذ كل غيب لهم شهادة، وكل حال لهم عبادة، فلا يصير لهم غيب شهادة، إلا ويزيدون إيماناً بغيب آخر ويقيناً في تحصيله، آيتهم من كتاب الله تعالى {وقل رب زدني علماً} {وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} {فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} بالزيادة وقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
ص- (ومنهم رضي الله عنهم: اثنا عشر نفساً يقال لهم البدلاء وما هم الأبدال)
وهم في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون. مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء، وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين، وسموا بدلاء لأن الواحد منهم لو لم يوجد الباقون، ناب منابهم وقام بما يقوم به جميعهم.
ق- (ومنهم رضي الله عنهم: رجال الاشتياق وهم خمسة أنفس وهم من ملوك أهل طريق الله)
بهم يحفظ الله وجود العالم، آيتهم من كتاب الله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} لا يفترون عن صلاة في ليل ولا نهار. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنهم وكان صالح البربري منهم لقيته وصحبته إلى أن مات وانتفعت به، وكذلك أبوعبدالله المهدوي بمدينة فاس صحبته كان من هؤلاء أيضا.
ر- (ومنهم رضي الله عنهم: ستة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، كان منهم ابن هارون الرشيد أحمد السبتي. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه: لقيته بالطواف يوم الجمعة يوم الصلاة سنة 599 وهو يطوف بالكعبة، وسألته وأجابني ونحن بالطواف، وكأن روحه تجسد لي في الطواف حساً كتجسد جبريل في صورة أعرابي ولهم سلطان على الجهات الست التي ظهرت بوجود الإنسان وقال رضي الله عنه: وأخبرت أن واحداً منهم كان من جملة العوانية من أهل أرزن الروم، أعرف ذلك الشخص بعينه وصحبتُه، وكان يعظمني ويراني كثيراً واجتمعت به في دمشق وفي وسواس وفي ملطية وفي قيصرية، وخدمني مُدة، وكانت له والدة كان باراً بها، واجتمعت به في حرَّان في خدمة والدته، فما رأيت فيمن رأيت من يبرُّ أمَّه مثله، وكان ذا مال وله سنون فقدته من دمشق، فما أدري هل عاش أو مات وبالجملة فما من أمر محصور في العالم في عدد ما إلا والله رجال بعدده في كل زمان يحفظ الله بهم ذلك الأمر.
(وأما الرجال عالم الأنفاس رضي الله عنهم)
فأنا أذكرهم وهم على قلب داود عليه السلام لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان وإنما نسبناهم إلى قلب داود وقد كانوا موجودين قبل ذلك بهذه الصفة- فالمراد بذلك أنه ما تفرق فيهم من الأحوال والعلوم والمراتب اجتمع في داود ولقيت هؤلاء العالم كلهم ولازمتهم وانتفعت بهم. وهم على مراتب لا يتعدونها بعدد مخصوص لايزيد ولا ينقص. وأنا أذكرهم إن شاء الله تعالى:
أ- (فمنهم رضي الله عنهم: رجال الغيب)
وهم عشرة لا يزيدون ولا ينقصون هم أهل خشوع فلا يتكلمون إلا همساً لغلبة تجلي الرحمن عليهم دائماً في أحوالهم. قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} وهؤلاء هم المستورون الذين لا يعرفون، خبأهم الحق في أرضه وسمائه فلا يناجون سواه ولا يشهدون غيره {يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}.
دأبهم الحياء إذا سمعوا أحداً يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجبون، واعلم أن لفظ رجال الغيب في اصطلاح أهل الله يطلقونه يريدون به هؤلاء الذين ذكرناهم وهي هذه الطبقة وقد يطلقونه ويريدون به من يحتجب عن الأبصار من الإنس، وقد يطلقونه أيضاً ويريدون به رجالاً من الجن من صالحي مؤمنينهم. وقد يطلقونه على القوم الذي لا يأخذون شيئاً من العلم والرزق المحسوس من الحس ولكن يأخذونه من الغيب.
ب- (ومنهم رضي الله عنهم: ثمانية عشر نفساً أيض. هم الظاهرون بأمر الله عن أمر الله)
لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان، ظهورهم بالله قائمون بحقوق الله مثبتون الأسباب، العوائدُ لهم عادةٌ، آيتهم {قل الله ثم ذرهم} وأيضاً {إني دعوتكم جهاراً}، كان منهم شيخنا أبومدين رحمه الله تعالى كان يقول لأصحابه: أظهروا للناس ما عندكم من الموافق كما يظهر الناس بالمخالفة، وأظهروا ما أعطاكم الله من نعمه الظهرة (يعني خرق العوائد) والباطنة (يعني المعارف) فإن الله يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} وقال عليه الصلاة والسلام: (التحدث بالنعمة شكر).
ج- (ومنهم رضي الله عنهم: ثمانية رجال يقال لهم رجال القوة الإلهية)
آيتهم من كتاب الله {أشداء على الكفار} لهم من الأسماء الإلهية (ذو القوة المتين) لا تأخذهم في الله لومة لائم، وقد يسمون رجال القهر، لهم همم فعالة في النفوس وبهذا يعرفون. كان بمدينة فاس منهم رجل واحد يقال له أبوعبدالله الدقاق، كان يقول: (ما اغتبت أحداً قط، ولا أغتيب بحضرتي أحد قط). قال سيدي محيي الدين ولقيت أنا منهم ببلاد الأندلس جماعة ولقيت أنا منهم أثر عجيب ومعنى غريب وكان بعض شيوخي منهم.
(ومن نمط هؤلاء رضي الله عنهم خمسة رجال) في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون هم على قدم هؤلاء الثمانية في القوة غير أن فيهم ليناً ليس في الثمانية وهم على قدم الرسل في هذا المقام، آيتهم قوله تعالى {فقولا قولاً ليناً} وقوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم} فهم مع قوتهم لهم لين في بعض المواطن. أما في العزائم فهم على قوة الثمانية على السواء ويزيدون عليهم بما ذكرناه مما ليس للثمانية. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه وقد لقينا منهم رضي الله عنهم وانتفعنا بهم.
د- (ومنهم رضي الله عنهم: خمسة عشر نفساً)
هم رجال الحنان والعطف الإلهي آيتهم آية الريح السليمانية {تجري بأمره رخاء حيث أصاب} لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون الخلق بعين الجود والوجود، لا بعين الحكم والقضاء، لا يولي الله قط منهم أحداً ولاية ظاهرة من قضاء أو ملك لأن ذوقهم ومقامهم لا يحتمل القيام بأمر الخلق فهم مع الخلق في الرحمة المطلقة التي قال الله تعالى فيها {ورحمتي وسعت كل شيء} ولقيت منهم جماعة وماشيتهم على هذا القدم.
هـ- (ومنهم رضي الله عنهم: أربعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} وآيتهم أيضاً في سورة الملك {الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} هم رجال الهيبة والجلال.
كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم لا خوف ظلم ولكن خوف اجلال
وهم الذين يمدون الأوتاد، الغالب على أحوالهم الروحانية، قلوبهم سماوية، مجهولون في الأرض، معروفون في السماء. أحدهم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والآخر على قلب شعيب عليه السلام، والثالث على قلب صالح عليه السلام، والرابع على قلب هود عليه السلام، ينظر إلى أحدهم من الملأ الأعلى عزرائيل، وإلى الآخر جبريل. وإلى الآخر ميكائيل. وإلى الآخر اسرافيل. شأنهم عجيب وأمرهم غريب. قال سيدي محيي الدين ما لقيت فيمن لقيت مثلهم، لقيتهم بدمشق فعرفت أنهم هم وقد كنت رأيتهم ببلاد الأندلس واجتمعوا بي ولكن لم أكن أعلم أن لهم هذا المقام، بل كانوا عندي من جملة عباد الله، فشكرت الله على أن عرفني بمقامهم وأطلعني على حالهم.
و- (ومنهم رضي الله عنهم: أربعة وعشرون نفساً في كل زمان يسمون رجال الفتح)
لا يزيدون ولا ينقصون، بهم يفتح الله على قلوب أهل الله ما يفتحه من المعارف والأسرار جعلهم الله على عدد الساعات، لكل ساعة رجل منهم، فكل من يفتح عليه في شيء من العلوم والمعارف في أي ساعة كانت من ليل أو نهار فهو لرجل تلك الساعة، وهم متفرقون في الأرض ولا يجتمعون أبداً، كل شخص منهم لازمٌ مكانه لا يبرح أبداً، فمنهم باليمن اثنان، ومنهم ببلاد الشرق أربعة، ومنهم بالمغرب ستة، والباقي بسائر الجهات، آيتهم من كتاب الله {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}.
ز- (ومنهم رضي الله عنهم: سبعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، رجال المعارج العلا، لهم في كل نفس معراج، وهم أعلى عالم الأنفاس. أي الأولياء أصحاب المراتب، آيتهم من كتاب الله تعالى {وأنتم الأعلون والله معكم} يتخيل بعض الناس من أهل الطريق أنهم الأبدال لما يرى أنهم سبعة كما يتخيل بعض الناس في الرجبيين أنهم الأبدال لكونهم أربعين عند من يقول أن الأبدال أربعون نفس. ومنهم من يقول سبعةأنفس. وسبب ذلك أنهم لم يقع لهم التعريف من الله بذلك، ولا بعددٍ ما، ولله في العالم في كل زمان من الرجال المصطفين الذين يحفظ الله بهم العالم فيسمعون أن ثم رجالاً عددهم كذا، كما أن ثم أيضاً مراتب محفوظة لا عدد لأصحابها معين في كل زمان- بل يزيد وينقصون كالأفراد، ورجال الماء، والأمناء والأحباء، والأخلاء، وأهل الله، والمحدثين والسمراء، والأصفياء، وهم المصطفون، فكل مرتبة من هذه المراتب محفوظة برجال في كل زمان، غير أنهم لا يتقيدون بعدد مخصوص مثل من ذكرناهم.
ج- (ومنهم رضي الله عنهم: أحد وعشرون نفساً وهم رجال التحت الأسفل)
وهم أهل النفس الذي يتلقونه من الله لا معرفة لهم بالنفس الخارج عنهم، وهم على هذا العدد في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله تعالى {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد تعالي عالم الطبيعة إذا لا أسفل منه، رده إليه ليحيا به فإن الطبع ميت بالأصالة فأحياه بها النفس الرحماني الذي رده إليه وهؤلاء الرجال لا نظر لهم إلا فيما يَرِدُ من عند الله مع الأنفاس فهم أهل حضور على الدوام.
ط- (ومنهم رضي الله عنهم: ثلاثة أنفس)
وهم رجال الامداد الإلهي والكوني في كل زمان لايزيدون ولا ينقصون فهم يستمدون من الحق ويمدون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة لا بعنف ولا شدة ولا قهر يقبلون على الله بالاستفادة، ويقبلون على الخلق بالإفادة، فيهم رجال ونساء قد أهلهم الله للسعي في حوائج الناس وقضائها عند الله لا عند غيره وهم ثلاثة قال سيدي محيي الدين لقيت واحداً منهم بأشبيلية وهو من أكبر من لقيته يقال له موسى بن عمران، سيد وقته كان أحد الثلاثة لم يسأل أحداً حاجة من خلق الله. وقد ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تقبل لي بواحدة تقبلت له بالجنة أنلا يسأل أحداً شيئاً).
وصفة هؤلاء إذا أفادواالخلق ترى فيهم من اللطف وحسن التأني حتى يظن أنهم هم الذين يستفيدون من الخلق. وأن الخلق هم الذين لهم اليد عليهم ما رأيت أحسن منهم في معاملة الناس.
ي- (ومنهم رضي الله عنهم: ثلاثة أنفس إلهيون رحمانيون في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، يُشبهونَ الأبدال في بعض الأحوال وليسوا بأبدال آيتهم من كتاب الله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} لهم اعتقاد عجيب في كلام الله بين الاعتقاديين. هم أهل وحي إلهي لا يسمعونه أبداً إلا كسلسلة على صفوان، لا غير ذلك، ومثل صلصلة الجرس هذا مقام هؤلاء القوم.
ك- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد وقد تكون امرأة في كل زمان)
آيته {وهو القاهر فوق عباده} له الاستطالة على كل شيء سوى الله شهم شجاع مقدام كثير الدعوى بحق يقول حقاً ويحكم عدل. قال سيدي محيي الدين كان صاحب هذا المقام شيخنا عبدالقادر الجيلي ببغداد كانت له الصولة والاستطالة بحق على الخق كان كبير الشأن أخباره مشهورة لم ألقه ولكن لقيت صاحب زماننا في هذا المقام، ولكن كان عبدالقادر أتم في أمور أخر من هذا الشخص الذي لقيته، وقد درج الآخر ولا علم لي بمن وليَّ بعده هذا المقام إلى الآن.
ل- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد مركب ممتزج في كل زمان)
لا يوجد غيره في مقامه وهو يشبه عيسى عليه السلام متولد بين الروح والبشر ولا يعلم له أب بشري كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجن والإنس فهو مركب من جنسين مختلفين، وهو رجل البرزخ به يحفظ الله تعالى عالم البرزخ دائماً فلا يخلوا كل زمان عن واحد مثل هذا الرجل يكون مولده على هذه الصفة فهو مخلوق من ماء أمه خلافاً لما ذكره أهل علم الطبائع أنه لا يتكون من ماء المرأة ولد، بل الله على كل شيء قدير.
م- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل واحد وقد يكون امرأة)
له دقائق ممتدة إلى جميع العالم وهو شخص غريب المقام لا يوجد منهم في كل زمان إلا واحد يلتبس على بعض أهل الطريق ممن يعرفه بحالة القطب، فيتخيل أنه القطب وليس بالقطب.
ن- (ومنهم رضي الله عنهم: رجل يسمى بمقامه سقيط الرفرف ابن ساقط العرش)
قال سيدي محيي الدين:لقيته بقونية آيته من كتاب الله {والنجم إذا هوى} حاله لا يتعداه، شغله بنفسه وبربه، كبير الشأن عظيم الحال، رؤيته مؤثرة في حال من يراه، فيه انكسار، هكذا شاهدته صاحب انكسار وذل، أعجبتني صفته، له لسان في المعارف، شديد الحياء.
س- (ومنهم رضي الله عنهم: رجلان يقال لهما رجال الغنى بالله)
في كل زمان من عالم الأنفاس أي الأولياء أصحاب المراتب كما تقدم، آيتهما من كتاب الله {والله غني عن العالمين} يحفظ الله بهما هذا المقام، للواحد منهما إمداد عالم الشهادة فكل غني في عالم الشهادة فمن هذا الرجل، وللآخر منهما إمداد عالم المكلوت فكل غنى بالله في عالم المكلوت فمن هذا الرجل، والذي يستمدان منه (هذان الرجلان) روح علوي متحقق بالحق غِناهُ الله ما هو غناه بالله، فإن أضفته إليهما فرجال الغني ثلاثة وإن نظرت إلى بشريتهما، فرجال الغنى اثنان، وقد يكون منهم النساء فغني بالنفس وغني بالله وغني غناه الله، قال سيدي محيي الدين: ولنا جزء لطيف في معرفة هؤلاء الرجال الثلاثة رضي الله عنهم.
ع- (ومنهم رضي الله عنهم: شخص واحد يتكرر بقلبه في كل نفس)
لا ترى في الرجال أعجب منه حالاً، وليس في أهل المعرفة بالله أكبر معرفة من صاحب هذا المقام، يخشى الله ويتقيه، تحققت به ورأيته وأفادني. آيته من كتاب الله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقوله تعالى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} لا يزال ترعد فرائصه من خشية الله هكذا شاهدناه.
ف- (ومنهم رضي الله عنهم: رجال عين التحكيم والزوائد وهم عشرة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء، وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين في تحصيل ذلك الغيب، فلا يكون لهم غيب. إذ كل غيب لهم شهادة، وكل حال لهم عبادة، فلا يصير لهم غيب شهادة، إلا ويزيدون إيماناً بغيب آخر ويقيناً في تحصيله، آيتهم من كتاب الله تعالى {وقل رب زدني علماً} {وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} {فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} بالزيادة وقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
ص- (ومنهم رضي الله عنهم: اثنا عشر نفساً يقال لهم البدلاء وما هم الأبدال)
وهم في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون. مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء، وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين، وسموا بدلاء لأن الواحد منهم لو لم يوجد الباقون، ناب منابهم وقام بما يقوم به جميعهم.
ق- (ومنهم رضي الله عنهم: رجال الاشتياق وهم خمسة أنفس وهم من ملوك أهل طريق الله)
بهم يحفظ الله وجود العالم، آيتهم من كتاب الله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} لا يفترون عن صلاة في ليل ولا نهار. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنهم وكان صالح البربري منهم لقيته وصحبته إلى أن مات وانتفعت به، وكذلك أبوعبدالله المهدوي بمدينة فاس صحبته كان من هؤلاء أيضا.
ر- (ومنهم رضي الله عنهم: ستة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، كان منهم ابن هارون الرشيد أحمد السبتي. قال سيدي محيي الدين رضي الله عنه: لقيته بالطواف يوم الجمعة يوم الصلاة سنة 599 وهو يطوف بالكعبة، وسألته وأجابني ونحن بالطواف، وكأن روحه تجسد لي في الطواف حساً كتجسد جبريل في صورة أعرابي ولهم سلطان على الجهات الست التي ظهرت بوجود الإنسان وقال رضي الله عنه: وأخبرت أن واحداً منهم كان من جملة العوانية من أهل أرزن الروم، أعرف ذلك الشخص بعينه وصحبتُه، وكان يعظمني ويراني كثيراً واجتمعت به في دمشق وفي وسواس وفي ملطية وفي قيصرية، وخدمني مُدة، وكانت له والدة كان باراً بها، واجتمعت به في حرَّان في خدمة والدته، فما رأيت فيمن رأيت من يبرُّ أمَّه مثله، وكان ذا مال وله سنون فقدته من دمشق، فما أدري هل عاش أو مات وبالجملة فما من أمر محصور في العالم في عدد ما إلا والله رجال بعدده في كل زمان يحفظ الله بهم ذلك الأمر.