في التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع



التصوف بكل لغات العالم : 
في التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع
و في السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها ، و يجدونها بعد انقضائه و هي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق في السماع الشعري وجداً ، و تحرك به إلا وجد بعد انقضائه و مفارقة المجلس قبضاً على قلبه ، و نوع استيحاش ، و أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة ، و لا يتفطن لهذا الأمر إلا من في قلبه أدنى حياة و إلا : فما لجرح بميت إيلام ، و لو سئل عن سبب هذا لم يعرفه ؛ لأن قلبه مغمور في السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آلامه التي طرقته فيه ، و عن أسباب فساد القلب منه ، و لو وزنه بالميزان العدل لعلِمَ من أين أتى ، فاسمع الآن السبب الذي لأجله نشأ منه هذا القبض ، و هذه الوحشة ، و البعد .
لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً بحق و باطل ، و مركباً من شهوة و شبهة ، و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها المحمود منه ، ممتزجاً بحظ النفس ، و الشيطان و الهوى فهو غير صافٍ ، و لا خالص ، فامتزج نصيب الصادق فيه من الرحمن بنصيب الشيطان ، و اختلط حظ القلب بحظ النفس ، هذا أحسن أحواله ، فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه بذاته و هو نصيبه من الرحمن فهو فيه بالعرض ، لوم يوضع عليه و لا أسس عليه فاختلط في وادي القلب الماء اليسير الصافي بالماء الكثير الكدر ، و غلب الخبيث في الطيب ، أو تجاورا و التقت الواردات الرحمانية ، و الواردات الشيطانية.
و المستمع الصاد لغلبة صدقه ، و ظهور أحكام القلب فيه يخفى عليه ذلك الوقت أثر الكدر و لا يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به ، و غيبتها عن سوى مطلوبه ، فلما أفاق من سكره ، و فارق لذة السماع و طيبه ، وجد اللوث و الكدر الذي هو حظ النفس ، و الشيطان ، و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك الأثر قبضاً ، و وحشة ، و أحس به بعداً و كلما كان أصدق و أتم طلباً كان وجوده لهذا أتم و أظهر فإن استعداده هو بحياة قلبه يوجب له الاحساس بهذا ، و لا يدري من أين أتى ، و هذا له في الشاهد نظائر و أشباه منها :
إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالاً تاماً بمشاهدة محبوب أو رؤية مخوف ، أو لذةٍ مَلَكت عليه حسّه و قلبه ، إذا أصابه في تلك الحالة ضربٌ ، أو لسعٌ أو سببٌ مؤلم ، فأنه لا يكاد يشعر به ، فإذا فارقته تلك الحالة وجد منه ألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة ، فإنه كان في مانع يمنعه من الإحساس بالألم فلما زال المانع أحس بالألم.
أهل الصدق إذا دخلوا في السماع الباطل
و لهذا كان بعض الصادقين إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة و الاستغفار ، و أخذ في أسباب التداوي التي يُدفع بها موجب أسباب القبض و الوحشة و البعد.
و هذا القدر إنما يعرفه أولوا الفقه في الطريق أصحاب الفِطَن ، المعتنون بتكميل نفوسهم ، و معرفة أدوائها و أدويتها و الله المستعان.
و لا ريب أن الصادق في سماع الأبيات قد يجد ذوقاً صحيحاً إيمانياً ، و لكن ذلك بمنزلة من شرب عسلاً في إناء نجس.
و النفوس الصادقة ذوات الهمم العالية رفعت أنفسها عن الشراب في ذلك الإناء تقذراً له ، ففرت منه لاستقامتها و طهارتها ، و علو همتها فهي لا تشرب ذلك الشراب إلا في إناء يناسبه ، فإذا لم يجد إناء يناسبه صانت الشراب عن وضعه في ذلك الإناء ، و انتظرت أن يليق به.
و غيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء انفق لها ؛ من عظام ميتة أو جلد كلب أو خنزير أو إناء خمر ، طالما ما شرب به الخمر ، أو لا يستحي الغراب أن يشرب أطيب شراب و ألذه في هذه الآنية ؟
و لو جرَّد الصادق ذلك في حال سماعه لوجد ذوقه من ذلك ، و لكن حلاوة العسل تغيب عنه نتنه و قذره و أثر قبحه على قلبه في تلك الحال ، فبعد مفارقته يوجب له ذلك وحشةً و قبضاً ، هذا إذا كان صادقاً في حاله مع الله و كان سماعه لله و بالله.
و أما إن كان كاذباً كان سماعه للذة نفسه و حظه فهو يشرب النجاسات في الآنية القذرات و لا يحس بشيء مما ذكرناه ؛ لاستيلاء الهوى و النفس و الشيطان عليه.
و أما صاحب السماع القرآني الذي تذوَّقه ، و شرب منه ، فهو يشرب الشراب الطهور ، الطيب النظيف في أنظف إناءٍ ، و أطيبه ، و أطهره .
فالآنية ثلاثة : نظيف ، و نجس ، و مختلط.
و الشرابات ثلاثة : طاهر و نجس و ممزوج.