أصول وتعاليم الطريقة الشاذلية



التصوف بكل لغات العالم : 

تتمثل أصول الطريقة الشاذلية في تعاليم خمسة: «تقوى الله في السر والعلانية، واتباع السنة في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرضا عن الله في القليل والكثير، والرجوع إلى الله تعالى في السراء والضراء»([73]).

ونلاحظ أن هناك تشابها وصلات قوية بين الطريقة الشاذلية والطريقة القادرية،

فنجد أن أصول القادرية أيضًا خمس: «علو الهمة، وحفظة الحرمة، وحسن الخدمة، ونفوذ العزمة، وتعظيم النعمة»([74]).

وأصول سائر الطرق خمسة أيضا: «طلب العلم للقيام بالأمر، وصحبة المشايخ، والإخوان للتبصر، وترك الرخص والتأويلات للحفظ، وضبط الأوقات بالأوراد للحضور واتهام النفس في كل شيء للخروج عن الهوى والسلامة من الغلط»([75]).

ولقد أوضح الإمام الشاذلي أساس طريقته حين قال: «طريق القصد إلى الله: الذكر، وبساطه: العمل الصالح، وثمرته: النور، والتفكر، وبساطه: الصبر، وثمرته: العلم، والفقر، وبساطه: الشكر، وثمرته: المزيد منه، والحب، وبساطه: بغض الدنيا وأهلها، وثمرته: الوصول للمحبوب([76]).

ويقول الشاذلي: «خصلتان تسهلان الطريق إلى الله، المعرفة والحب»([77]).

والمعرفة لا تأتي إلا عن طريق العلم. أما الحب حقيقة فهو أساس الطريقة الشاذلية. يقول الإمام الشاذلي ت: «إننا ننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان فأغنانا عن الدليل والبرهان. فبالحب تهبط المعرفة في القلب بلا دليل ولا برهان، وإنا لا نرى أحدًا من الخلق، هل في الوجود سوى الملك الحق وإن كان ولابد فكالهباء في الهواء إذا تحققنا لم نجده شيئا»([78]).

ويقول الشيخ زروق عن الطريقة الشاذلية([79]): الطريقة الشاذلية مبنية على:

1- الذكر مع الافتكار.

2- واليقظة مع الاصطبار.

3- وترك التدبير والاختيار.
4- والجمع على الله مع عدم التفرقة([80]).
1- ذكر الشاذلية هو ذكر مع افتكار.. يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152] ويحدثنا الإمام الشاذلي عن الأذكار فيقول: «الأذكار أربعة: تذكره وهو الذي تطرد به الغفلة أو ما تخافه من الغفلة. وذكر تذكر به. أي خوف العذاب أو البعد، وحب النعيم أو القرب. وذكر يذكرك أن الحسنات من الله والسيئات من نفسك وإن كان الله هو الفاعل المختار، وذكر تذكر به ذلك: يقول الله فيه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152] فيذكر الله عبده به وليس للعبد فيه متعلق، وأن يجري لسانه وهو موضع الغناء بالذكر، والمذكور العلي الأعلى، فإذا دخلت فيه صار الذاكر مذكورا والمذكور ذاكرا»([81]).
ويقول الشاذلي: «هن ثلاث: فرغ لسانك للذكر، وقلبك للتفكر، وبدنك لمتابعة الأمر وأنت إذن من الصالحين»([82]).
2- واليقظة أو المراقبة «تسير مع الذكر جنبا إلى جنب، فيجب على الذاكر أن يكون مراقبًا ربه يقظا حذرًا مما يمر عليه من الخواطر والواقعات»([83]).
وتكون المراقبة التامة لهواجس النفس واليقظة لها بدوام بذكر لا إله إلا الله.
3- ومن أسس الطريقة الشاذلية ترك التدبير والاختيار. فأبو الحسن الشاذلي

هنا يدعو سالك طريقه -حتى يحصل على المحبة مع الله. أن يترك تدبيره إلى تدبير الله واختياره إلى اختياره سبحانه وتعالى فهو مدبر الأشياء وكل شيء بمشيئته تعالى. يقول الشاذلي: «المحبة مع الله برفض الشهوات والمشيئات. ولن يصل العبد إلى الله وقد بقي معه شهوة من شهواته أو مشيئة من مشيئاته»([84]).

وقال أيضا: «من انقطع عن تدبيره إلى تدبير الله ومن اختياره إلى اختيار الله وعن نظره إلى نظر الله، وعن مصالحه إلى علم الله بملازمة التسليم والرضا والتفويض والتوكل على الله فقد أتاه الله حسن الثواب([85])».

ويتابع الشاذلي آراءه في ذلك فيقول: «لا تختر من أمرك شيئا، واختر ألا تختار، وفر من المختار ومن فرارك ومن كل شيء إلى الله ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾[القصص:68]([86])».

وعن أسباب حجب الخلق عن الله تعالى يقول الشاذلي: «أكثر ما حجب الخلق عن الله شيئان: هم الرزق، وخوف الخلق، وهم الرزق أشد الحجابين.. وذلك لأن أكثر الناس يخلون من خوف الخلق. ولكنهم لا يخلو أحد منهم من هم الرزق إلا القليل، لا سيما وشاهد الفاقة قائم بوجود ذلك، فأنت مفتقر إلى ما يقيم بنيتك ويشد قوتك([87])».

وهنا يحسن بنا أن نتوقف قليلا ونتمهل في العرض فقد يفهم من هذا كله أن الشيخ الشاذلي من الآخذين بمذهب الجبر وأن في هذا القول بترك التدبير والاختيار لله وحده قول بالسلبية والتواكل.

إن الشاذلي يدعو إلى التوكل على الله -لا إلى التواكل والخمول. ولقد

ذكرنا من قبل كيف كان يكره المريد المتعطل الذي لا عمل له، بل أنه يعد واحدا من كبار الصوفية الداعين للأخذ بالأسباب.

يقول ابن عطاء الله السكندري تلميذ تلميذه الكبير أبي العباس المرسي: قال شيخي أبو العباس المرسي: «.. نحن إذا صحبنا تاجر ما نقول له اترك صنعتك وتعال، أو طالب علم ما نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله تعالى، وما قسمه له على أيدينا هو واصل إليه.

وقد صحب رسول الله × صحابة فما قال لتاجر: اترك تجارتك ولا لذي صنعة اترك صنعتك بل أقرهم على أسبابهم وأمرهم بتقوى الله فيها»([88]).

ويقول صاحب (المفاخر العلية): «والسادة الشاذلية ن أشد المشايخ حثًا على عمل الحرفة، حتى كان الشيخ أبو العباس المرسي يقول: عليكم بالسبب، وليجعل أحدكم مكوكه سبحته أو تحريك أصابعه في الخياطة سبحته أو الضفر»([89]).

ولقد تحدث عن التدبير ابن عطاء الله السكندري في كتابه (التنوير في إسقاط التدبير) بأسلوب رائع فقال: «واعلم أن التدبير أكثر جريانه على العباد المتوجهين إلى الله، وأهل السلوك من المريدين قبل الرسوخ في اليقين ووجود القوة والتمكين. وذلك لأن أهل الغفلة، قد أجابوا الشيطان في الكبائر والمخالفات واتباع الشهوات. وليس هو أكبر أسبابه فيهم، وإنما يدخل الشيطان على أهل الطاعات والمتوجهين لعجزه عن أن يدخل من غير ذلك عليهم فرب صاحب ورد عطله عن ورده، أو عن الحضور مع الله، ورب مريد استضعفه الشيطان وألقى إليه دسائس التدبير ليعكر عليه صفاء قلبه»([90]).

وبعد ذلك يلقي ابن عطاء الله السكندري الضوء على الأدلة التي تحمله على ترك التدبير والاختيار فيقول([91]):

واعلم أن الذي يحملك على ترك التدبير والاختيار أمور:

1- علمك بسابق تدبير الله فيك وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك فكن له كما كنت.

2- أن تعلم أن التدبير منك لنفسك معناه حسن نظر الإنسان لنفسه.

3- أن القدر لا يجري حسب تدبير الإنسان لنفسه.

4- أن الله هو المتولي تدبير مملكته، وماذا يكون الإنسان في هذه المملكة فالاهتمام بالتدبير جهل بالله.

5- علمك أنك ملك لله، فليس لله معه تدبير ما هو لغيره، فما ليس لك في ملكه ليس لك تدبيره وإنك بايعت الله، فلا ينبغي لعبد بعد المبايعة تدبير 
أو منازعة وإلا كان ذلك نقصا للمبايعة.

6- إنك في ضيافة الله؛ لأن الدنيا دار الله وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف ألا يعول هما مع رب المنزل.

7- النظر إلى قيومية الله في كل شيء، فهو قيوم الدنيا والآخرة، في الدنيا بالرزق والعطاء، وفي الآخرة بالأجر والجزاء، فإذا علم العبد قيومية ربه وقيامه عليه ألقى قياده إليه وانطرح بالاستسلام بين يديه.

8- اشتغال العبد بوظائف العبودية، فإذا توجهت همة العبد إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لنفسه.

9- إنك عبد مربوب وحق العبد ألا يعول هما مع سيده، فإن مقام العبودية الثقة بالله والاستسلام إليه.

10- عدم العلم بعواقب الأمور، فربما دبرت أمرا ظننت أنه لك فكان عليك.

من هذا كله فإن الإمام الشاذلي كما ذكرت سابقا ليس كأهل الجبر الذين يعتقدون أن الإنسان كالريشة المعلقة في مهب الرياح يحركها الله كيف يشاء. ذلك أن الإنسان في نظر هؤلاء الجبريين لا اختيار له ولا قدرة وأن الله قدر الأعمال أزلا وخلقها.

لم يقل الشاذلي بمثل هذا الرأي الجبري وإنما -على ما بينا- كان صاحب دعوة إلى التوكل على الله في كل الأعمال وتفويض الأمر إليه دون أن يدعو مريديه إلى التواكل وإنما يدعوهم للتكسب والعمل والسعي في الأرض والكفاح فيها، فالطريق الشاذلي طريق عمل ودعوة إلى الأخذ بالأسباب وليس طريق تواكل. وإنما طريق عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فالطريقة الشاذلية كما يقول الدكتور علي صافي: «تقوم من الناحية السلوكية على العمل بالكتاب والسنة، أعني أن الشاذلي يلزم أصحابه وأتباعه ألا يقولون قولا يخالف في ظاهره ما تعارف عليه أهل السنة والجماعة من جهة ولا ما يأباه ظاهر الكتاب والسنة من جهة أخرى، ثم تلاوة الأحزاب، وعقد مجالس الذكر التي قد تنشد فيها الأشعار.. هذا من الناحية العملية.

أما من الناحية النظرية، فإن طريقة الشاذلي تقوم أولا على الاعتقاد بأن الموجود شيئان، خالق ومخلوق، أو رب ومربوب، أو عباد وإله معبود، وهو في إيمانه بالله وتصوره العلاقة بينه وبين الخلق متفق مع مذهب الأشاعرة وأهل السنة»([92]).

حقا لقد كان الشاذلي صوفيا متسننا عاملا بكتاب الله وسنة رسوله