الامام الشاذلي العالم
التصوف بكل لغات العالم :
كان الشاذلي رحمه الله على قدر كبير من العلم والمعرفة وكان يحضر مجلسه بعض علماء ونجباء مصر مثل: «العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن عصفور([27])».
ومما يدلنا على علم الشاذلي آراؤه المختلفة في النفس والذات والصفات وإرشاداته القرآنية لبعض الآيات الحكيمة.
فمثلا يقول الشاذلي عن النفس: «مراكز النفس أربع: مركز للشهوة في المخالفات، ومركز للشهوة في الطاعات، ومركز في الميل إلى الراحات، ومركز في العجز عن أداء المفروضات لله، ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة:5] ([28])».
ويقول: «رأس النفس: إرادتها، ويداها وعلمها وعقلها، وجلاها: تدبيرها واختيارها، فإذا أردت جهاد النس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة وأضربها بالخوف عن كل حظوظ، وأسجنها في قبضة الله فيما كنت، وأشك عجزك إلى الله كلما غفلت([29])».
وفي الذات والصفات يقول الشاذلي: أركز الأشياء في الصفات، ركزها قبل وجودها، ثم انظر هل للعين أين، أو ترى للكون كان، أو ترى للأمر شأن، وكذلك بعد وجودها([30]).
وقد كان الإمام الشاذلي بنفسه يختار الكتب التي يقرأها أو يدرسها ويشرحها لتلاميذه ومريديه.. ومن أهم هذه الكتب: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، المواقف والمخاطبات للشيخ محمد بن عبد الجبار النفري، قوت القلوب لأبي طالب المكي، الرسالة القشيرية للإمام القشيري، والشفاء للقاضي عياض.
وداخل جدران مدرسة الشاذلي استطاع هذا الرجل أن يربي الرجال ويعلمهم منهجه وطريقته.. ولكنه لم يضع كتبا.. وعندما سئل لِمَ لَمْ تضع الكتب قال: كتبي أصحابي.
وللشاذلي إشارات لطيفة لبعض آي القرآن الكريم تعد بمثابة تفسير صوفي لهذه الآيات الشريفة.
وقبل أن نستعرض هذه الإشارات الصوفية يجدر بنا أن نشير إلى قضية تأويل القرآن لدى الصوفية.
يعتمد الصوفية في تأويلهم القرآن -أي في مذهبهم الصوفي في تفسير القرآن-
على حديث ذكر بروايات متعددة وبألفاظ مختلفة ينسب إلى رسول الله ×: «ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع».
يقول الدكتور كمال جعفر: «ونرى أن اللفظين: «ظاهر» و «باطن» قرآنيان ولا يمكننا أن نعترض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق والتاريخ، كما أن به ناحية أخرى ربما كانت أخفى وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص، وأن التعبيرات الحديثة، مثل قولنا قراءة «ما بين السطور» لشاهد على أن لكل نص ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى تعمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك([31])».
ثم يذكر الدكتور جعفر ما نصه: «ويرى بعض النقاد أنه بالنسبة للتفسير الصوفي للقرآن يجب التفريق بين نوعين هامين، هما: التفسير النظري الذي يتخذ أسسا فلسفية عمادًا له، والثاني ذلك التفسير الإشاري الذي لا يستند إلى نظريات أو مبادئ فلسفية. على أن بعض المتطرفين لا يقبلون أي تفسير صوفي للقرآن مهما دعا إلى سمو روحي أو أخلاقي. وفي ذلك ما لا يخفى من تضيق وتزمت لا مبرر له. والفريق الأول من النقاد يرون أن في القرآن ذاته ما يشهد لهذا اللون من التفسير الإشاري أو الفيض. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] ([32])».
والدكتور جعفر ممن يرون فائدة في هذا اللون من التفسير الإشاري أو فهم القرآن «على أن يراعى فيه اتفاقه مع الروح العامة للقرآن ومع الاستعمال اللغوي وما أثر من تعاليمه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يكون لهذا الفهم دوره الفعال في التأثير والتنشيط الروحي الذي يبعث على تنمية المشاعر النبيلة وتحصيل مكارم الأخلاق وبعد فهو فهم يضيف ثروة لا يستهان بها إلى تراثنا الروحي الإسلامي([33])».
ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم بتفسير القرآن، ولم يصل شرحا له، وإنما نقل عنه كلمات وإشارات صغيرة لبعض آياته الكريمة.. وقد كان سلوكه وخلقه قرآنيا، ونستطيع أن نقول من ناحية أخرى أن أحاديث الرسول × تعد بمثابة ضوء وتفسير للقرآن إلى حد مناسب.
يقول سهل بن عبد الله ت عن فهم القرآن: «لو أعطي العبد كل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهاية ما جعل الله تعالى في آية من كتاب الله تعالى من الفهم، لأنه كلام الله تعالى، وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله نهاية. فكذلك لا نهاية لفهم كلامه. وإنما يفهمون على مقدار ما يفتح الله تعالى على قلوب أوليائه من فهم كلامه، وكلام الله غير مخلوق فلا تبلغ إلى نهاية الفهم فيه فهوم الخلق، لأنها محدثة مخلوقة([34])».
وعن إشارات الصوفية يقول الدكتور عبد الحليم محمود: «وينبغي أن نلاحظ أمرين: الأول: أن هذه الإشارات لا تهدف في قليل ولا في كثير إلى أن تحل محل التفسير المألوف.
الثاني: أن هذه الإشارات لا تتعارض مع التفسير المألوف.. إنها إشارات وليست تفسيرا، ومن أجل ذلك فإنه لا تعارض بين الصوفية والمفسرين([35])».
والحق «أن أهم النقاط التي يصر عليها النقاد لقبول هذا الفهم ألا يدعي الصوفي أولوية هذا الفهم بالصدق مع استبعاد المعاني الأخرى، بل لابد من التسليم أولا بالتفسير الظاهري أو بالمعنى الحرفي، ولا ضير بعد ذلك أن نذكر معان أخرى تنكشف للنفس الصافية فإن هذا ثمرة الإيمان كما يقول سعد الدين التفتازاني([36]).
وإذا كان علماء الظاهر يختلفون في تفسيراتهم وفهمهم واجتهاداتهم، ويعد
اختلافهم رحمة، فإن اختلاف أهل الحقائق رحمة من الله أيضا لأن كل واحد يتكلم من حيث وقته، ويجيب من حيث حاله ويشير من حيث وجده، فتكون فيهم لكل واحد من أهل الطاعات، وأرباب القلوب والمريدين، والمتحققين فائدة من كلامهم([37])».
ورأينا أن هذه الإشارات الصوفية فيها إثراء روحي ولون من ألوان الكشف عن الإعجاز القرآني. طالما أن الصوفي يؤمن بالتفسير الظاهري للقرآن ولا يرى أن إشاراته تقوم مقام التفسير الظاهري لكتاب الله العزيز. وإننا نعتبر مثل هذه المحاولات الصوفية لتأويل القرآن الكريم مجرد إشارات لا أكثر ولا أقل وإن كان فيها إثراء روحي مشرق المضمون ونفحة إلهية جميلة.
ولقد قام الشاذلي ببعض هذه المحاولات، فمثلا فسر آية ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه:17]. هكذا: «يقال للولي: وما تلك بيمينك أيها الولي؟ فيقول: هي دنياي أنفق منها على نفسي وأهلي وإخواني، فيقال له: ألقها، فيلقيها فيجدها حية تسعى في هلاك قابضها فيأخذ حذره منها، فإذا حذر منها يقال له: خذها ولا تخف فكما ألقاها أولا بإذن حال بدايته فكذلك أخذها بإذن حال نهايته([38])».
ويقول الإمام الشاذلي في تفسير آية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85] ([39]). ومن يظن أن هذا العلم. أعني علم الروح وغيره مما ذكر وما لم يذكر، لم يحط به الخاصة العليا أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظيمين: جهل أولياء الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك، وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يظن على مخصوص؟ وسرى به للتكذيب إلى القدرة والشرع بقوله عن اليهود أو عن العرب كما تضمن الخلاف. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. فما الدليل
لك منهما على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العليا. والكشف عن هذا أن السؤال يقع بأربعة أحرف: هل، وكيف، ولم، ومن.
فهل يقع بها السؤال عن الشيء أموجود هو أو معدوم، وكيف يقع بها السؤال عن حال الشيء.. ولم يقع بها السؤال عن العلة.. وليس في الآية شيء من هذا.
فإنك إن قلت فيها معنى هل يقتضي: هل الروح موجود أو معدوم وقد عرفوا وجوده من قبل. ولولا ذلك لما قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء:85]. فثبت أنهم عرفوا وجوده فبطل هذا وليس فيها سؤال عن الحال كيف هو، ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا. ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. ولشغبوا وتردوا إذ هذا شغلهم وعاداتهم وإرادتهم. فثبت أن السؤال إنما كان عن الشيء من أين هو، بدليل الجواب والبيان الشافي بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. إذ الرسول عالم بما سألوا عنه فأجاب عن الله بذلك. كما تقول آدم فسألك عنه، وفهم المسئول السؤال فقال: آدم من تراب، فإذا رضي الجواب قنع وليس يرجع العدو إلا لفهم عظيم من الحق العظيم الذي لا مرد له. فكيف يزعم الزاعم أنه لا يعرف ولا يجوز أن يعرف. فقد أوجب الله علينا معرفته ولا مثل له. ولو ضيعناها لكنا كفارا أو عصاة فكيف بموجود مخلوق أمثاله كثيرة. هذا عين الجهل أن يقال: لا يجوز أن يعرف من له المثل والنظير وهو الروح. ( ويوجب معرفة من لا شبيه له ولا نظير)، فنعوذ بالله من جهل الجاهلين وظلم الظالمين. والذي أقول به أن لله أسرارا لا يسع فيها الرسم. ولا يليق بها الكتم. أن ترسم في الدواوين لعمى البصائر وضعفاء النجائز. ولا يليق بها الكتم لوضوحها وشدة ظهورها.
فلا تعبأن بهم مع كثرة حجمهم وذل للحق، واخضع له فيما هم فيه. وأعرض عنهم فيما لا علم لهم به. وقد أمر الله تعالى نبينا محمدا × بالاقتداء بإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام وهو الفاضل الذي لا يصل إليه أحد، ويقول قد شاركتهم في النبوة والرسالة والهداية والأمور الطارئة على النفوس والأبدان والقلوب والأرواح. وانتدبهم فيما فيه الشركة وما خصصنا به. ففينا كذلك أيضا من فهم هذا السر، وإن الله مع عامة المؤمنين ومع أوساطهم ومع الأهلين وفارقهم فيما هو خاص للمخصوصين.
فإن تكن منهم فازدد بعلمك وعملك فقرًا إلى الله وتواضعًا لعباده واعطف بالرحمة على عامة المؤمنين وإن كانوا ظالمين إلا حيث أمرك الله بالغلظة عليهم مع الدعاء الصالح والدفع عنهم.
والحق أنه هذه رؤيا جديدة للآية الشريفة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. «وهذه الآية الكريمة كانت مثار خلاف شديد بين المفسرين من مختلف النزعات. وذلك أن كثيرا من المفسرين رأوا: أن الآية إنما هي نهي عن البحث في الروح بمعنى النفس الإنسانية لأنها من أمر الله فالله سبحانه، وهي من أمره، هو وحده العالم بها. وعارض هؤلاء كثيرون يرون أن الروح في الآية الكريمة، إنما هو القرآن الكريم، بدليل سياق الآيات السابقة، واللاحقة، فإنها كلها في القرآن الكريم، والقرآن يسمى روحا كما أن جبريل عليه السلام يسمى روحا... ولم يأخذ أبو الحسن بهذا الرأي أو ذلك، وإنما أدلى برأي نشهد بأصالته وعمقه ودقته»([40]).
ومن أمثلة تفسيرات الشاذلي وإشاراته واستشهاده بالآيات القرآنية. قال الشاذلي: (إذا عرض لك عارض يصدك عن الله فاثبت. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45] ([41])).
وقال الشاذلي: (من الشهوة الخفية للولي إرادته النصرة على من ظلمه. قال الله تعالى للمعصوم الأكبر: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35]. أي فإن الله قد لا يشاء إهلاكهم([42])).