بدء أصل الطرق الصوفية



التصوف بكل لغات العالم : 
بدء أصل الطرق الصوفية
اعلم يا أخا العقل أن اللّه تعالى لما أمرعباده أن يدعوه - أي يذكروه - بأسمائه تعالى الحسنى طلب الكثير من الصحابة من حضرة من أسند اللّه تعالى إلى حضرته البيان والتبيين أن يتعلموا كيف يكون الذكر بأسماء اللّه تعالى والأعداد التي يذكرونه. فأبان لهم صلى الله عليه وسلم: أن أفضل الذكر، إما أن يكون باسم الذات وهو اللّه تعالى، أو باسم النفي والاثبات وهو لا إله إلا اللّه. وإما أن يكون سراً أو جهراً، أو يكون جامعاً لكلتا الحالتين كما قال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} الآية فبين صلى الله عليه وسلم الذكر السري في قوله الشريف عن سعد بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي). وعن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفضل الصلاة التي يستاك لها، على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعف. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (لفضل الذكر الخفي الذي لا يسمعه سبعون ضعفا). فيقول إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق لحسابهم وجاءت الحفظة بما حفظوا واكتبو. قال اللّه لهم: أنظروا هل بقي له من شيء؟ فيقولون: ربنا ما تركنا شيئا مما علمناه وحفظناه إلا وقد أحصيناه وكتبناه، فيقول اللّه تبارك وتعالى له: إن لك عندي خبيئاً لا تعلمه، وأنا أجزيك به وهو الذكر الخفي، فاختار الصديق الأكبر رضي الله عنه أن يعلمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الذكر الخفي والذكر الجهري فلقنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اسم الذات بالسر وهو (اللّه) واسم النفي والإثبات بالجهر وهو (لا إلا إلا اللّه) فدأب عليهما رضي الله عنه ليكون جامعاً بين السر والجهر، والظاهر والباطن والحقيقة، والشريعة.
والقول والفعل، فكان من إخلاصه رضي الله عنه وشدة مراقبته احترق كبده وقد شهر عنه أنه كان يشم من نفسه رائحة الكبد المشوي، وشهر من وصفه الذاتي ما رواه في مجمع الزوائد عن السيدة عائشة رضي اللّه عنه. قالت: كان غزيز الدمعة وقيد الجوانح، أي محزون القلب كأن الحزن قد كسره وضعفه، يرى عليه الإنكسار، وشدة الخوف من اللّه، شجي النشيد، يعني أن من يسمعه وهو يقرأ يحزن لسماع قراءته لشدة اخلاصه، إذا ما سمعته كأنك تسمع اللّه يقول: كيف لا وهو القائل: {إن اللّه لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور عنده ما أراد). وقد قال رضي الله عنه (لا آمن مكر اللّه ولو احدى قدمي داخل الجنة) وقد قال عند سماعه من حضرته صلى الله عليه وسلم (الصلاة في أول الوقت في رضوان اللّه، وفي وسط الوقت في رحمة اللّه، وفي آخر الوقت في عفو اللّه) فقد قال الصديق رضي الله عنه (لأن أكون في رضوان اللّه تعالى خير لي من أن أكون تحت عفو اللّه). وهكذا كل من سلك على مبدئه، ونسج على منواله، وشرب من مشربه يفيض اللّه تعالى عليه، كما قال تعالى {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء} الآيات وممن حاز هذا الفضل والفخار السيد محمد بهاء الدين الذي عرف عنه أنه نقش الاسم على قلبه، فشهر بالنقشبندي بالفارسية وشهرت من الصديقية إلى النقشندية وفرعت وكثر فيها الأفاضل واشتهر فيها أهل الحزم والعزم وإن أردت أن تعرفهم فاضلاً عن فاضل، فاتبع أسانيدهم تجدها كسلسلة المحدثين والقراء للكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
واعلم أن من مقتضيات حكم العليم الخبير سبحانه وتعالى أن جعل مقام أهل الاحسان أعلى المقامات في الدين الإسلامي، كما قدمنا وهم الربانيون أهل اللّه تعالى وخاصته من خلقه، ولذا جعل نشر مبادئهم على زوجين ولا ثالث لهما بين جميع المسلمين على الاطلاق، وهم الصديقية الذين أصلهم سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلوية وهو الذين أصلهم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم اللّه تعالى وجهه، هذا وإن كان صلى الله عليه وسلم أعطى العهد لكثير من الصحابة كسيدنا أنس بن مالك، خادم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، كما ينتهي إليه أحد سندي سيدي أبي الحسن الشاذلي، والآخر عن سيدنا علي رضي اللّه تعالى عنهم.
وممن أخذ العهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا سلمان الفارسي، وسيدنا أبو هريرة، وسيدنا ابن مسعود، وسيدنا حذيفة بن اليمان، وغيرهم. لو استقصيناه لضاق بنا المقام.
ولكن لم يشتهر قديماً وحديثاً إلا ما كان لسيدنا الصديق وهم النقشبندية. وما كان لسيدنا علي رضي الله عنه وهم الخلوتية وإن كان عن سيدنا علي كثرت الفروع بالنسبة لأولاده وكذا أخذ عن سيدتي زينب بنت سيدنا علي رضي الله عنه السيدة شعوانة البصرية، والسيدة ريحانة الحبشية، والسيدة نفيسة المرضية، وميمونة البدوية، وعابدة الكردية، ومرجعهن إلى سيدنا علي رضي الله عنه. وهذا هو سبب العهد الذي لا يكون إلا عن الأشياخ العارفين. ثم قد تعددت الطرق باشتهار الأفاضل البارزين في كل عصر كالقادرية والرفاعية والأحمدية والدسوقية والشاذلية والبيومية والإدريسية والتيجانية ومرجع الجميع إلى سيدنا علي رضي الله عنه وهي المشتهرة الآن بالخلوتية. وذلك بعد أن يختم المريد جميع الأسماء ويذكرها ويعرف علاماتها وإشاراتها يدخله الشيخ الخلوة والأسماء التي تذكر هي سبعة حسب مراتب النفس وهي معروفة عند مشايخ الطرق وقد دونه الأفاضل في كتب معروفة فراجعها إن شئت قال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وحيث أنك قد عرفت أن سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقن سيدنا الصديق رضي الله عنه اسم الذات، ويذكره بالنفس سراً، وبعدها يأخذ القلب يتحرك بحركة النفس وبعدها يكون الذكر بالقلب تحرك النفس أو لم يتحرك كما هو معروف. وهذا هو أصل الطريقة الصديقة النقشبندية وأما أصل الطريقة الخلوتية العلوية وسندها ومصدرها فقد جاء في مجمع الزوائد ما رواه الإمام أحمد والطبراني وغيرهم. وقد روى أيضاً يوسف الكوارني أن علياً رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على أقرب الطرق إلى اللّه وأسهلها على عباده وأفضلها عند اللّه تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إلا إلا اللّه.
ولو أن السماوات السبع والأرض السبع في كفة ولا إلا إلا اللّه في كفه لرجحت لا إلا إلا اللّه)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول اللّه). فقال علي رضي الله عنه: كيف أذكر يا رسول اللّه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (غمض عينيك واسمع عني ثلاث مرات ثم قل أنت ثلاث مرات وأنا أسمع فقال: صلى الله عليه وسلم لا إله إلا اللّه ثلاث مرات. مغمضاً عينيه رافعاً صوته وعليً يسمع. ثم قال علي: لا إله إلا اللّه كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع). ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم الأمة أجمع الاستغفار مائة مرة في اليوم والليلة بيانا لقوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذيهم وأنت فيهم وما كان اللهّ معذبهم وهم يستغفرون} ولا زال فينا صلى الله عليه وسلم وفي قوله الشريف الذي يرويه البخاري وغيره: (يا معشر الناس توبوا إلى اللّه فإني أوب إليه في اليوم والليلة مائة مرة) فكان هذا ضرورياً عند تلقين العهد ليكون هذا كالطهارة للدخول على الذكر ثم الصلاة والسلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليكون أدعى للقبول لما ورد في ذلك من قوله الشريف: (ثم صلوا علي ومن قوله: (من صلي عليَّ عشرا) الحديث ومن قوله: (قولوا اللّهم صل على محمد) الحديث الذي كان هو بياناً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الآية ثم الجد والاجتهاد في القيام بالأعمال الشرعية وخاصة الصلوات في أوقاتها، والبعد عن محارم اللّه عز وجل بالقدر الممكن للبشر ومصاحبة الصالحين وتجنب أهل الفساد وحب الخير والعلماء العاملين. وهكذا من الوصايا التي يرويها الشيخ العارف لمريديه وأن يرشده إلى تلاوة القرآن.
وإن كان يعرف القراءة أو سماعه وسماع العلم وأن يجد ويجتهد في الدنيا لنيل الخير في الآخرة وأن يطلع على كتب الصالحين التي تدله على اللّه تعالى وأن يتخلق بالأخلاق الفاضلة وأن يتجنب الرذيلة كل ذلك عند تلقين العهد.
معرفة مقام الذكر وأسراره
الذكر نعت إلهي وهو نفسي وملئي في الحق وفي الخلق ومع كونه نعتاً إلهياً فهو جزاء ذكر الخلق قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} فجعل وجود ذكره عن ذكرنا إياه، وكذلك حاله فقال تعالى: (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، فأنتج الذكرُ الذكر وحال الذكر حال الذكر وليس الذكر هنا بأن نذكر اسمه، بل نذكر اسمه من حيث ما هو مدح له وحمداً، إذ الفائدة ترتفع بذكر الاسم من حيث دلالته على العين، لا في حقك ولا في حقه. فإن قلت فقد رجح أهل اللّه ذكر لفظة اللّه اللّه وذكر لفظة هو على الأذكار التي تعطي النعت، ووجدوا لها فوائد.. قلت: صدقوا وبه أقول. ولكن ما قصدوا بذكرهم اللّه اللّه نفس دلالته على العين، وإنما قصدوا هذا الاسم أو الهو من حيث أنهم علموا أن المسمى بهذا الاسم أو هذا الضمير هو من لا تقيده الأكوان ومن له الوجود التام فإحضار هذا في نفس الذاكر عند ذكر الاسم لذلك وقعت الفائدة. فإنه ذكر غير مقيد فإذا قيده بلا إله إلا اللّه لم ينتج له إلا ما تعطيه هذه الدلالة. وإذا قيده بسبحان اللّه لم يتمكن له أن يحضر إلا مع حقيقة ما يعطيه التسبيح. وكذلك اللّه أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا باللّه. وكل ذكر مقيد لا ينتج إلا ما تقيد به، لا يمكن أن يجني منه ثمرة عامة، فإن حالة الذكر تقيده.
وقد عرفنا اللّه أنه ما يعطيه إلا بحسب حاله في قوله: (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، الحديث فلهذا رجحت الطائفة ذكر لفظة اللّه وحدها أو ضميرها من غير تقييد فما قصدوا لفظة دون استحضار ما يستحقه المسمى، وبهذا المعنى يكون ذكر الحق عبده باسم عاج لجميع الفصائل اللائقة به، التي تكون في مقابلة ذكر العبد ربه بالاسم اللّه. فالذكر من العبد باستحضار، والذكر من الحق بحضور لأنا مشهودين له معلومون. وهو لنا معلوم ومشهود. فلهذا كان لنا الاستحضار وله الحضور. فالعلماء يستحضرونه في القوة الذاكرة، والعامة تستحضره في القوة المتخيلة. ومن عباد اللّه العلماء باللّه من يستحضرونه في القوتين يستحضره في القوة الذاكرة، عقلاً وشرعاً، وفي القوة المتخيلة شرعاً وكشفاَ، وهذا أتم الذكر لأنه ذكره بكله. ومن ذلك الباب يكون ذكر اللّه له ثم إن اللّه ما وصف بالكثرة شيئاً إلا الذكر وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر. قال: {والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات}. وقال: {اذكروا اللّه ذكراً كثيرا}. وما أتى الذكر قط إلا بالاسم اللّه خاصة معرى عن التقييد فقال {اذكروا اللّه} وما قال بكذا وقال: {ولذكر اللّه أكبر} ولم يقل بكذا، وقال {اذكروا اللّه في أيام معدوات}. ولم يقل بكذا، وقال {اذكروا اسم اللّه عليها} ولم يقل بكذا وقال: {فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه} ولم يقل بكذا وقال صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول اللّه. فما قيده بأمر زائد على هذا اللفظ لأنه ذكر الخاصة من عباده الذين يحفظ اللّه بهم عالم الدني. وكل دار يكونون فيه. فإذا لم يبق في الدنيا منهم أحد لم يبق للدنيا سبب حافظ. يحفظها اللّه من أجله فتزول وتخرب وكم من قائل اللّه باق في ذلك الوقت. ولكن ماهو ذاكر بالاستحضار الذي ذكرناه فلهذا لم يعتبر اللفظ دون الاستحضار.
{وإذا ذكرت ربكَ في القرُآن وحدهُ ولوْا على أدبارهمْ نفُوا} لأنهم لم يسمعوا بذكر شركائهم واشمأزت قلوبهم، هذا مع علمهم بأنهم هم الذين وضعوا آلهة ولهذا قال: {قل سموهم} فإنهم إن سموهم قامت الحجة عليهم فلا يسمى اللّه إلا اللّه. ودرجات الذكر عند العارفين من أهل اللّه إحدى وخمسون وتسعمائة درجة. وعند الملامية تسعمائة وعشرون درجة.