نتيجة الفكر، في الجهر في الذكر
التصوف بكل لغات العالم :
نتيجة الفكر، في الجهر في الذكر
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سألت - أكرمك اللّه - عما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه أم لا؟
الجواب - أنه لا كراهة في شيء من ذلك وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن والأحاديث الواردة باستحباب الإسرار بها وها أنا أبين ذلك فصلاً فصل.
ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزام.
الحديث الأول - أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - (يقول اللّه - أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) والذكر في المأ لا يكون إلا عن جهر.
الحديث الثاني - أخرج البزار والحاكم في المستدرك وصحهه عن جابر قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا أيها الناس، إن الله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر اللّه).
الحديث الثالث - أخرج مسلم والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة سيارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول اللّه: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك، فيقول: ما يسألون؟ وهو أعلم، فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يارب، فيقول فكيف لو رأوها؟ ثم يقول ومم يستجيروني؟ وهو أعلم بهم، فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوني، وأجرتهم مما استجاروني، فيقولون: ربنا إن فيهم عبداً خطاء جلس اليهم وليس منهم، فيقول: وهو أيضاً، قد غفرت له، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
الحديث الرابع - أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من قوم يذكرون اللّه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللّه فيمن عنده).
الحديث الخامس - أخرج مسلم والترمذي عن معاوية (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر اللّه ونحمده، فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن اللّه يباهي بكم الملائكة).
الحديث الساديس - أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر اللّه حتى يقولوا مجنون).
الحديث السابع - أخرج البيهقي في شعب الايمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر اللّه حتى يقول المنافقون أنكم مراءون) مرسل.
ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن هذا إنما يقال عند الجهر دون الإسرار.
الحديث الثامن - أخرج البيهقي عن أنس قال - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا يا رسول اللّه وما رياض الجنة؟ قال - حلق الذكر).
الحديث التاسع - أخرج بقي ابن مخلد عن عبداللّه بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر بمجلسين أحد المجلسين يدعون اللّه ويرغبون إليه، والآخر يعلمون العلم، فقال - كلا المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر).
الحديث العاشر - أخرج البيهقي عن عبداللّه بن مغفل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (ما من قوم اجتمعوا يذكرون اللّه إلا ناداهم مناد من السماء - قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات).
الحديث الحادي عشر - أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الرب تعالى يوم القيامة سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم، فقيل - ومن أهل الكرم يا رسول اللّه؟ قال: مجالس الذكر في المساجد).
الحديث الثاني عشر - أخرج البيهقي عن ابي مسعود قال - إن الجبل لينادي الجبل باسمه - يا فلان هل مربك اليوم لله ذاكر؟ فإن قال نعم استبشرا، ثم قرأ عبداللّه {لقد جئتم شيئاً إذاً تكاد السموات يتفطرن منه} الآية، وقال - أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير.
الحديث الثالث عشر - أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله {فما بكت عليهم السماء والأرض} قال - ان المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر اللّه فيه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال - إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض عبداللّه المؤمن مات، فتبكي الأرض والسماء فيقول الرحمن - ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولون - ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك.
وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به.
الحديث الرابع عشر - أخرج البزار والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال اللّه تعالى - عبدي إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه وأكثر).
الحديث الخامس عشر - أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال - ابن الأدرع (انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليله، فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت - يا رسول اللّه عسى أن يكون هذا مرائياً؟ قال - لا، ولكنه أواه).
وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر (أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين - إنه أواه، وذلك أنه كان يذكر اللّه).
وأخرج البيهقي عن جابر بن عبداللّه أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل - لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (دعه فإنه أواه).
الحديث السادس عشر - أخرج الحاكم عن شداد بن أوس قال: (إنا لعند النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال - ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا اللّه، ففعلنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - اللّهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال - ابشروا، فإن اللّه قد غفر لكم).
الحديث السابع عشر - أخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم، فيقول اللّه تعالى - اغشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم).
الحديث الثامن عشر - أخرج الطبراني وابن جرير عن عبدالرحمن بن سهل بن حنيف قال: (نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية، فخرج يلتمسهم، فوجد قوماً يذكرون اللّه تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال - الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم).
الحديث التاسع عشر - أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال (كان سلمان في عصابة يذكرون اللّه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا، فقال - ماكنتم تقولون؟ قلنا - نذكر اللّه اللّه، قال إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال - الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم).
الحديث العشرون - أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي (أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له - ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة؟ قال - بلى قال - عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر اللّه).
الحديث الحادي والعشرون - أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والاصبهاني عن أنس قال - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (لأن أجلس مع قوم يذكرون اللّه بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون اللّه بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها).
الحديث الثاني والعشرون - أخرج الشيخان عن ابن عباس قال (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس - كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته).
الحديث الثالث والعشرون - أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال (من دخل السوق فقال لا إلا إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كتب اللّه له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة) وفي بعض طرقه (فنادى).
الحديث الرابع والعشرون - أخرج أحمد وأبو داود والترمزي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال (جاءني جبريل فقال - مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير).
الحديث الخامس والعشرون - أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبداللّه بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، لا يأتيان السوق إلا لذلك.
وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال - أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرته.
(فصل) - إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنها لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه، إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه.
وأما معارضته بحديث (خير الذكر الخفي) فهو نظير معارضة أحاديث الجر بالقرآن بحديث (المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارىء، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم - يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار، انتهى. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وب يحصل الجمع بين الأحاديث. فإن قلت - قال اللّه تعالى {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة، ودون الجهر من القول}.
قلت - الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه:
الأول: أنها مكية كآية الإسرار {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به} وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله بترك الجهر سدا للذريعة، كما نهي عن سب الاصنام لذلك في قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم} وقد زال هذا المعنى وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.
الثاني: أن جماعة من المفسرين - منهم عبدالرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير - حملوا الآية على الذاكر حال قراءة وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله - {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. قلت - وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكون باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر اللّه، ولذا ختم الآية بقوله {ولا تكن من الغافلين}.
الثالث: ما ذكره الصوفيه أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعه.
قلت: ويؤيده من ا لحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته، فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويسمعون قراءته وإنه ينطر بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فسَّاق الجن ومردة الشياطين).
فإن قلت - فقد قال تعالى - {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.
قلت: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامه رضي الله عنه أن عبداللّه بن مغفل سمع ابنه يقول: اللّهم أني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول - سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء، فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد.
الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار لأنه أقرب إلى الإجابة ولذا قال تعالى: {إذ نادى ربه نداء خفي} ومن ثم استحب الإسرار بالدعاء في الصلاة اتفقا، لأنها دعاء.
فإن قلت - فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال - ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال - (هؤلاء الذين يزعمون أن عبداللّه كان ينهى عن الذكر ما جالست عبداللّه مجلساً قط إلا ذكر اللّه فيه) وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال: (إن أهد ذكر اللّه ليجلسون إلى ذكر اللّه، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر اللّه تعالى ما عليهم منها شيء).
نتيجة الفكر، في الجهر في الذكر
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سألت - أكرمك اللّه - عما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه أم لا؟
الجواب - أنه لا كراهة في شيء من ذلك وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن والأحاديث الواردة باستحباب الإسرار بها وها أنا أبين ذلك فصلاً فصل.
ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزام.
الحديث الأول - أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - (يقول اللّه - أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) والذكر في المأ لا يكون إلا عن جهر.
الحديث الثاني - أخرج البزار والحاكم في المستدرك وصحهه عن جابر قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا أيها الناس، إن الله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر اللّه).
الحديث الثالث - أخرج مسلم والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة سيارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول اللّه: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك، فيقول: ما يسألون؟ وهو أعلم، فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يارب، فيقول فكيف لو رأوها؟ ثم يقول ومم يستجيروني؟ وهو أعلم بهم، فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوني، وأجرتهم مما استجاروني، فيقولون: ربنا إن فيهم عبداً خطاء جلس اليهم وليس منهم، فيقول: وهو أيضاً، قد غفرت له، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
الحديث الرابع - أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من قوم يذكرون اللّه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللّه فيمن عنده).
الحديث الخامس - أخرج مسلم والترمذي عن معاوية (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر اللّه ونحمده، فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن اللّه يباهي بكم الملائكة).
الحديث الساديس - أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر اللّه حتى يقولوا مجنون).
الحديث السابع - أخرج البيهقي في شعب الايمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر اللّه حتى يقول المنافقون أنكم مراءون) مرسل.
ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن هذا إنما يقال عند الجهر دون الإسرار.
الحديث الثامن - أخرج البيهقي عن أنس قال - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا يا رسول اللّه وما رياض الجنة؟ قال - حلق الذكر).
الحديث التاسع - أخرج بقي ابن مخلد عن عبداللّه بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر بمجلسين أحد المجلسين يدعون اللّه ويرغبون إليه، والآخر يعلمون العلم، فقال - كلا المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر).
الحديث العاشر - أخرج البيهقي عن عبداللّه بن مغفل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (ما من قوم اجتمعوا يذكرون اللّه إلا ناداهم مناد من السماء - قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات).
الحديث الحادي عشر - أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الرب تعالى يوم القيامة سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم، فقيل - ومن أهل الكرم يا رسول اللّه؟ قال: مجالس الذكر في المساجد).
الحديث الثاني عشر - أخرج البيهقي عن ابي مسعود قال - إن الجبل لينادي الجبل باسمه - يا فلان هل مربك اليوم لله ذاكر؟ فإن قال نعم استبشرا، ثم قرأ عبداللّه {لقد جئتم شيئاً إذاً تكاد السموات يتفطرن منه} الآية، وقال - أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير.
الحديث الثالث عشر - أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله {فما بكت عليهم السماء والأرض} قال - ان المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر اللّه فيه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال - إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض عبداللّه المؤمن مات، فتبكي الأرض والسماء فيقول الرحمن - ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولون - ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك.
وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به.
الحديث الرابع عشر - أخرج البزار والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال اللّه تعالى - عبدي إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه وأكثر).
الحديث الخامس عشر - أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال - ابن الأدرع (انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليله، فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت - يا رسول اللّه عسى أن يكون هذا مرائياً؟ قال - لا، ولكنه أواه).
وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر (أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين - إنه أواه، وذلك أنه كان يذكر اللّه).
وأخرج البيهقي عن جابر بن عبداللّه أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل - لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (دعه فإنه أواه).
الحديث السادس عشر - أخرج الحاكم عن شداد بن أوس قال: (إنا لعند النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال - ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا اللّه، ففعلنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - اللّهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال - ابشروا، فإن اللّه قد غفر لكم).
الحديث السابع عشر - أخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم، فيقول اللّه تعالى - اغشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم).
الحديث الثامن عشر - أخرج الطبراني وابن جرير عن عبدالرحمن بن سهل بن حنيف قال: (نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية، فخرج يلتمسهم، فوجد قوماً يذكرون اللّه تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال - الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم).
الحديث التاسع عشر - أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال (كان سلمان في عصابة يذكرون اللّه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا، فقال - ماكنتم تقولون؟ قلنا - نذكر اللّه اللّه، قال إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال - الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم).
الحديث العشرون - أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي (أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له - ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة؟ قال - بلى قال - عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر اللّه).
الحديث الحادي والعشرون - أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والاصبهاني عن أنس قال - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (لأن أجلس مع قوم يذكرون اللّه بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون اللّه بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها).
الحديث الثاني والعشرون - أخرج الشيخان عن ابن عباس قال (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس - كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته).
الحديث الثالث والعشرون - أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال (من دخل السوق فقال لا إلا إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كتب اللّه له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة) وفي بعض طرقه (فنادى).
الحديث الرابع والعشرون - أخرج أحمد وأبو داود والترمزي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال (جاءني جبريل فقال - مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير).
الحديث الخامس والعشرون - أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبداللّه بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، لا يأتيان السوق إلا لذلك.
وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال - أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرته.
(فصل) - إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنها لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه، إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه.
وأما معارضته بحديث (خير الذكر الخفي) فهو نظير معارضة أحاديث الجر بالقرآن بحديث (المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارىء، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم - يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار، انتهى. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وب يحصل الجمع بين الأحاديث. فإن قلت - قال اللّه تعالى {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة، ودون الجهر من القول}.
قلت - الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه:
الأول: أنها مكية كآية الإسرار {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به} وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله بترك الجهر سدا للذريعة، كما نهي عن سب الاصنام لذلك في قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم} وقد زال هذا المعنى وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.
الثاني: أن جماعة من المفسرين - منهم عبدالرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير - حملوا الآية على الذاكر حال قراءة وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله - {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. قلت - وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكون باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر اللّه، ولذا ختم الآية بقوله {ولا تكن من الغافلين}.
الثالث: ما ذكره الصوفيه أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعه.
قلت: ويؤيده من ا لحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته، فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويسمعون قراءته وإنه ينطر بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فسَّاق الجن ومردة الشياطين).
فإن قلت - فقد قال تعالى - {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.
قلت: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامه رضي الله عنه أن عبداللّه بن مغفل سمع ابنه يقول: اللّهم أني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول - سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء، فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد.
الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار لأنه أقرب إلى الإجابة ولذا قال تعالى: {إذ نادى ربه نداء خفي} ومن ثم استحب الإسرار بالدعاء في الصلاة اتفقا، لأنها دعاء.
فإن قلت - فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال - ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال - (هؤلاء الذين يزعمون أن عبداللّه كان ينهى عن الذكر ما جالست عبداللّه مجلساً قط إلا ذكر اللّه فيه) وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال: (إن أهد ذكر اللّه ليجلسون إلى ذكر اللّه، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر اللّه تعالى ما عليهم منها شيء).