في ذكر ماهية الورد للمريد ووصف حال العارف بالمزيد



التصوف بكل لغات العالم : 
في ذكر ماهية الورد للمريد ووصف حال العارف بالمزيد
أعلم أن الورد اسم لوقت من ليل أو نهار يرد على العبد مكرراً فيقطعه في قربة إلى اللّه. ويورد فيه محبوباً يرد عليه في الآخرة. والقربة اسم لأحد معنيين: أمر فرض عليه أو فضل ندب إليه. فإذا فعل ذلك في وقت من ليل أو نهار داوم عليه فهو (ورد) قدمه يرد عليه غدا إذا قدم. وأيسر الأوراد صلاة أربع ركعات، أو قراءة سورة من المثاني، أو سعي في معاونة على بر أو تقوى.
قال أنس بن سيرين: كان لمحمد بن سيرين في كل ليلة سبعة أوراد، فكان إذا فاته منها شيء قضاه بالنهار فسمى العمل الموظف المؤقت ورد. وقال المعتمد بن سليمان: ذهبت ألقن أبي عند الموت فأومأ إليّ بيده دعني فإني في وردي الرابع فسمي الحزب من أحزاب القرآن لوقت ما وردا فمن العمال من كان يجعل الأوراد من أجزاء القرآن، ومنهم من كان يجعله من أعداد الركوع، وفوق هؤلاء من العلماء كانوا يجعلون الأوراد من أوقات الليل والنهار، فإن قطع الوقت بآية أو ركعة أو فكرة أو شهادة فذاك ورده.
وأما العارفون فإنهم لم يوقتوا الأوراد ولم يقسموا الأوقات بل جعلوا الورد واحداً بمولاهم، وجعلوا حاجاتهم من الدنيا ضرورتهم، وصيروا الوقت متساوياً لسيدهم، وتصريفهم لمصالحهم، يدخل عليهم فوضعوا رقابهم في رق العبودية، وصفوا أقدامهم في مصاف الخدمة، فكانوا في كل وقت بحكم ما يستعملون. وبوصف ما به يطالبون، ذلك وردهم، وتلك علامتهم. عن حسن اختيار اللّه عز وجل لهم. وجميل توليه إياهم، لا يكلهم إلى نفوسهم ولا يوليهم بعضهم {وهو يتولى الصالحين} مشاهدتهم ذكرهم، وقرب الحبيب حبهم، ليس يشهدون فضيلة في غير محبوبهم، ولا يرجون قربة بغير معروفهم، به يتقربون إليه، وإليه به يسبحون له، وعليه يتوكلون له، ومنه يخافون عنه، وإياه يحبون منه، لو أسقطوا الأعمال كلها غير ما تعلق بالتوحيد ثبوته ما نقص من توحيدهم ذرة ولو تركوا أوراد المريدين كلهم ما أثر في قلوبهم بقسوة ولا فترة. لأنهم لا يزيدون بالأعمال فينقصون بها، ولا يتفقدون قلوبهم وأحوالهم بالأوراد فيعرفون النقصان والمزيد منها، ولا تجتمع قلوبهم بسبب، ولا تقوى نفوسهم بطلب، فتتشتت لفقد سبب ويضعف يقينهم لطلب هذه المعاني هي أحوال المريدين. وجملة تغييرهم في شيئين ضيقهم بالخالق فهربوا منه، واتساعهم بالخلق فاستراحوا إليه، ولو دام قربهم منه لدامت راحتهم به، ولو وقفت شهادتهم عليه لما نظروا إلى سواه.
وأما العارفون فقد فرغ لهم من قلوبهم، واجتمعت المتفرقات بمجامعها لهم، وأقامهم القائم لهم بشهادتهم له، فلهم بكل شيء مزيد، ومن كل شيء توحيد، كل خاطر بهم يردهم إليه، وكل منظور إليه يدلهم عليه، وكل نظرة وحركة طريق لهم إليه، فتوحيدهم في مزيد، ويقينهم في تجديد بغير تغيير ولا تعديد ولا ايقاف ولا تحديد. ولربما طلب أحدهم التسبب بالأسباب فيجمعه بها رب الارباب. لأنه مراد بالاجتماع وإنما استروح بالشتات لاستجمام ما هو قي قلبه آت، ثقة منه بحبيبه وتمكنا عند محبوبه. إذ قد علم أنه طالب فطرح نفسه ليحمله فحمله بما تولاه، ولم يكله إلى نفسه وهواه، فهذه مقامات لأهلها لا يعرفها سواهم، ولا تصلح إلا لهم، ولا تليق إلا بهم، ولا يقاس عليها، ولا يدعي مكانها، ولا تنتظر فتترك لها الأوراد، ولا تتوقع فيقصر لأجلها في الاجتهاد. والمرادون بها محمولون بها مواجهون بعلمها، مسلوك بهم طريقها، مزودون زادها وهي محبوسة عليهم، مقصورة لهم، فهم لها سابقون فأولياء اللّه عابدوه. وقد عكفوا بقلوبهم لمن عبدوه، ونظروا إلى معبودهم الذي عكفوا عليه، ففهموا عنه فصل الخطاب، بما آتاهم من شهادة حكمة حكم الكتاب. إذ يقول {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا} بعد قوله للغافلين فصيرهم معرضاً {نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} مع قوله: {أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد} إلى قوله: {فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} فعلموا أن الإخلاص الذي أمروا به هو العبادة ولا عبادة إلا بمجانية الهوى وبعدها الإنابة إلى المولى.
أما سمعت قوله عز وجل {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى اللّه له البشرى} وأيقنوا أن الصلاة عماد الدين، ولا صلاة إلا للمتقين، ولا تقوى إلا بإنابة، كما قال تعالى {منيبين إليه واتقوه} ثم قال: {وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} فهذه عبادة العارفين على سنة النبيين، فإنابتهم مشاهدتهم لمذكورهم كقوله في وصف ضدهم {كانت أعينهم في غطاء من ذكرى} فهم عن كشف من ذكره إذ كانوا بضد وصفهم وحقيقة ذكرهم نسيانهم لسوى كذورهم بمعنى قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} فأخرجهم الذكر له إلى الفرار إليه كما فهموا عنه إذ يقول: {لعلكم تذكرون}، {ففروا إلى اللّه} فلما هربوا إليه آواهم بقربه ووهب لهم هداية إلى حبه ونشر لهم من رحمته وطواهم في قبضته فلم يرهم إلا هم ولم يعرفهم سواهم وقد قال تعالى: {وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته} وقال تعالى: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين}.