أيها الولد (لشيخ الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وعن سائر الصالحين)



التصوف بكل لغات العالم : 
أيها الولد
(لشيخ الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وعن سائر الصالحين)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام علي سيدنا ومولانا محمد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وآله وصحبه أجمعين.
اعلم أيها الولد والمحب العزيز - أطال الله بقاك بطاعته وسلك بك سبيل أحبائه: أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة. إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي وإن لم يبلغك فقل لي: ماذا حصلت في هذه السنين الماضية ؟
أيها الولد: من جملة ما نصح به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امته قوله عليه الصلاة والسلام : "علامة إعراض الله تعالي عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وإن أمرا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له من العبادة لجدير أن تطول عليه حسرته ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار". وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم.
أيها الولد: النصيحة سهلة والمشكل قبولها لأنها في مذاق متبعي الهوى مرة. إذ المناهي محبوبة في قلوبهم وعلى الخصوص لمن طالب العلم الرسمي ومشتغلا في فضل النفس ومناقب الدنيا فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته وخلاصه فيه وأنه مستغن عن العمل وهذا اعتقاد الفلاسفة. سبحان الله العظيم ! لا يعلم هذا المغرور أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه". وروي أن الجنيد (قدِِِِس الله سره) ’روي في المنام بعد موته فقيل له: ما الخبر يا أبا القاسم ؟ قال: "طاحت تلك العبارات وفنيت تلك الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل".
أيها الولد: لا تكون من الأعمال مفلسا ولا من الأحوال خاليا وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد. مثاله لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخري وكان الرجل شجاعا وأهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟ ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب. فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسالة علمية وتعلمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل. ومثله ايضا لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالهما.
(بيت باللسان الفارسي)
كرمى دو هزار رطل همى بيمائي…تامى نخورى نباشدت شيدائي(1)
ولو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله سبحانه وتعالى "وأن ليس للإنسان إلا ماسعى" "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا" "جزاء بما كانوا يكسبون" "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا" "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا".
===================
(1) وترجم هذا البيت الشيخ أمين الكردي (رضي الله عنه وعن سائر الصالحين)
لو كلت ألفي رطل خمر لم تكن …لتصير نشوانا إذا لم تشرب
والمقصود هنا أن من ذاق هذا الفن المباح وهذا العلم العالي الشريف عرف ومن لم يذق طعم الوصال لا يعرف. وهنا ملاحظة يجب أن نحسن الظن في مقصد هذا البيت وعدم تحمل النص والمؤلف جرم وتهمة , لان قصده كان للتوضيح بلغة ذلك العصر الذي عاش فيه وهو اعرف منا بذلك فعلينا حمل البيت علي أحسن المحامل.
وما تقول في هذا الحديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا". والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ودليل الأعمال أكثر من أن يحصي وإن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالي وكرمه. لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته لأن "رحمة الله قريب من المحسنين".
ولو قيل أيضا: يبلغ بمجرد الإيمان قلنا: نعم ولكن متي يبلغ؟ وكم من عقبة كوود يقطعها إلى أن يصل؟ فأول تلك العقبات عقبة الإيمان وأنه هل يسلم من سلب الإيمان أم لا؟ وإذا وصل هل يكون خائبا مفلسا؟ وقال الحسن البصري (رضي الله عنه): "يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم".