فصل في القلب الميت والقلب المريض



التصوف بكل لغات العالم : 
فصل في القلب الميت 
والقلب الثاني : ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد لغير الله : حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذلا إن أحب أحب لهواه وإن أبغض أبغض لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور ينادى إلى الله وإلى الدار الا خرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه فهو في الدنيا كما قيل في ليلى : 
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ... ومن قربت ليلى أحب وأقربا فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك 
فصل في القلب المريض 
والقلب الثالث : قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو لما غلب عليه منهما ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه : ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة : ما هو مادة هلاكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين : داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما إليه جوارا قالقلب الأول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى 
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان 
ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ الحج : 52 54 ] 
فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب في هذه الا يات ثلاثة : قلبين مفتونين وقلبا ناجيا فالمفتونان : القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي والناجي : القلب المؤمن المخبت إلى ربه وهو المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقاد 
وذلك : أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا ا فة به يتأتى منه ما هيىء له وخلق لأجله وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته وعدم التأتي لما يراد منه كاليد الشلاء واللسان الأخرس والأنف الأخشم وذكر العنين والعين التي لا تبصر شيئا وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة 
فالقلب الصحيح السليم : ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له 
والقلب الميت القاسي : لا يقبله ولا ينقاد له 
والقلب المريض : إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم 
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ وفي القلوب من الشبه والشكوك : فتنة لهذين القلبين وقوة للقلب الحي السليم لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه ويعلم أن الحق في خلافه فيخبت للحق ويطمئن وينقاد ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له فلا يزال القلب المفتون في مرية من إلقاء الشيطان وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدا 
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وا له وسلم تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين : قلب 
أسود مربادزا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض فشبه عرض الفتن على 
القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئا فشيئا وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين : قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله كالكوز مجخيا أي مكبوبا منكوسا فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الا فتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك : أحدهما : اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلا والباطل حقا الثاني : تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وانقياده للهوى واتباعه له 
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات فتن الغي والضلال فتن المعاصي والبدع فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد والإرادة والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد 
وقد قسم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب منكوس فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمى وقلب تمده مادتان : مادة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما 1 
فقوله : قلب أجرد أي متجرد مما سوى الله ورسوله فقد تجرد وسلم مما سوى الحق و فيه سراج يزهر وهو مصباح الإيمان : فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات 
الباطل وشهوات الغى وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر لأنه داخل في غلافه وغشائه فلا يصل إليه نور العلم والإيمان كما قال تعالى حاكيا عن اليهود : وقالوا قلوبنا غلف [ البقره : 88 ] وهو جمع أغلف وهو الداخل في غلافه كقلف وأقلف وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة له على رد الحق والتكبر عن قبوله فهي أكنة على القلوب ووقر في الأسماع وعمى في الأبصار وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ الأنعام : 25 ] فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا 
وأشار بالقلب المنكوس وهو المكبوب إلى قلب المنافق كما قال تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا [ النساء : 88 ] أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالي أصحابه والحق باطلا ويعادى أهله فالله المستعان 
وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله بل فيه مادة منه ومادة من خلافه فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر والحكم للغالب وإليه يرجع