فى معانى الحب




التصوف بكل لغات العالم : 

وَمَن اعتَلَى أموَاجَ بَحرِ مَحبَّتِى     فأنَا السَّفينَةُ والغَرَامُ شِرَاعُ
نحاول هنا أن نغوص فى بعض معانى هذا البيت وبواطنه آملين أن نخرج بحلية من هذا البحر العميق. ولا يمكن أن نحصى كل دقائقه فى حيز محدود من الزمان والمكان والإمكان.
والسؤال هو هل الحُبُّ هو المَحَبَّةَ نفسها؟
ونقول أن أصل الكلمة حبّ وبفتق الشّدة نكتبها: حبب وهى بذا فعل ثلاثى على صيغة "فعلَ" وجاء الإسم منها "حُبّ" على صيغة فُعل كما تقول: جَعل جُعل, مَكث مُكث. ثم تذهب إلى صيغة تصريف إسم الآلة على وزن مفعَلة فتجد التصريف منها محبّة. ومن هنا فكلمة حُبّ تعنى كنه ذلك الشعور الناتج فى القلب من التعلق بشخص أو شئ ما تعلق ألفة ورضا وهذا يقع من الترتيب فى منطقة الخيال والأمر. أما كلمة محبّة فهى تحرك ذلك الشعور إلى مرحلة الإرادة حيث المُرِيد والمُرَاد والمُحِب والمُحَب أو المَحبُوب. ومثال لذلك الفرق بين الكهرباء "التى هى ذات الطاقة" و الجهد الكهربائى "القوة الدافعة".
أقسام المحبّة: وقسّمت المحبة إلى مراحل ودرجات على النحو: الميل، المحبَّة، الهَوَى، الصَّبَابَة،العِشْق، الوَلَه، الهيام، والتَّتيُّم.
وبعد ذلك هل الحُب أو المحبّة سهل أو سهلةٌ؟ والإجابة قطعاً لا. وإلا لارتداها الغاشى والماشى ولنالها الحاضر والباد من غير جهد ولا سهاد. وفى ذلك قيل:
هو الحُب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل     فما اختاره مضنى به وله أهل
وقيل:
لا يعرف الحبّ إلا من يكابده         ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقيل:
حرامٌ عليها العهد ألاّ يسيقها      سوى باذلٌ فى حبّها غالى المهرِ
وقال ساداتنا الصوفية  كثيراً فى هذا الباب ما يعيى عن الحصر، وذلك أن أمرهم كله قائم على الحب. ومن ثمّ جاء التعبير فى هذا البيت بعبارة (ومن اعتلى) (أمواج) (بحر) (محبتى). كل كلمة هنا تدل على هول الأمر وعظمه.
وجاء فى "لسان العرب" اعْتَلى الشيء: قَوِى عليه وعَلاه. ومن هنا فمن يدخل فى بحر الحب كمن يعتلى مكاناً عالياً أو صهوة جواد فلا بد له من همة يحفزه على ركوب مخاطر الأمواج العالية المتلاطمة.
أما بحرُ المحبّة: والمحبّة بحرٌ. وقد قيل:
بحرُ حُبٍّ نحنُ فيه سُفنٌ     من يرُمهُ للبلايا يتهيئ
والمحبّة هى ذلك السرّ العظيم والإكسير العجيب الذى يربط بين الذرّات والمسافات. وهى أيضاً موطن الحيرة. ولذلك عبّر الإمام فخر الدين عن موطن الحيرة بعبارة البحر فى قوله :
نزلنا بحرَ هو كالسّابحات      وأيقنّا بأنّ الوصلَ آت
فأهل السير يحتاجون إلى تلك المحبة لقطع كل عقبات السير ومعه يأتنسون ولا يشعرون غربة. قال سيدى عمر بن الفارض:
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معى       وخاطرى أين كنّا غير منزعج
فالدّارُ دارى وحِبّى حاضرٌ ومتى        بدا فمنعرج الجرعاء منعرجى
وفى تفسير ذلك يوضح سيدى عبد الغنى النابلسى : أن الوطن يبدأ مع المرء من حيث يسكن من بيت أو بلد ولكن الموطن الأصلى الذى جئنا منه هو أول الخلق ولذلك لا تسكن الروح إلا بالوصول إلى ذلك الموطن الذى جاءت منه. فالأمر يحتاج للروح الوثابة صاحبة الهمة التى تستحيب لنداء الداع. وتنهض للسير فى بحر المحبة. وقيل:
وفى الحُبّ أرواحٌ بذلتُ وأنفساً
وفى البحر: يقول سيدى الشيخ أبو العباس التيجانى : البحور: كناية عن قلوب أكابر العارفين. وعند ابن عربى فإنّ مصطلح "البحر" يجر إلى جملة مصطلحات جانبية متعلقة به مثل: بحر البهت، بحر التلف، بحر الهباء، بحر الأرواح، بحر الخطاب، بحر الشكر، بحر الحب، بحر البداية، بحر القرآن، بحر الأزل، بحر الأبد، البحر الأجاج، بحر الحقيقة، البحر اللدنى، بحار أرض الحقيقة ... وتعقب بأنه من الصعب إحصاء جملة المصطلحات التى يضيف إليها ابن عربى مفردة "بحر".
ونعود للبيت:
وَمَن اعتَلَى أموَاجَ بَحرِ مَحبَّتِى     فأنَا السَّفينَةُ والغَرَامُ شِرَاعُ
يعبر عن محبة الشيخ وعنايته بمريديه فى كل مراحلهم. فمع هول الأمر فإن الشيخ قد مهّد طريق السير وهو يأخذ بيد المريد لقطع أهواله. فكان هذا البحر الخضم الهائج يحتاج لسفينة تصل بمن معها إلى حيث المُراد. فكان محبة وعناية الشيخ وهدايته هى تلك السفينة. ولما كانت السفينة تسير بريح الحب فلا بد من الشراع والريح التى تنفخ فى ذلك الشراع حيث يعتمد سير السفينة على كفاءة الشراع وقوته. فكان الشراع هو الغرام. قال تعالى ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ البقرة 164.
وأما الغرام؟ فيقول صاحب "لسان العرب": الغَرامُ: اللازم من العذاب الدائم والبَلاءُ والحُبُّ والعشق وما لا يستطاع أَن يُتَفَصَّى منه. ومن ذلك جاء فى وصف النار "إنّ عذابها كان غراما". وقالوا:
إن الغرام هو الحياة فعش به         صبّاً فحقك أن تموت وتُقبرا
إذن الغرام هو تلك النار المتأججة والطاقة الكامنة التى تهب الحياة بالحب. يقول الإمام فخر الدين :
يموتُ شهيداً من أحبّ محمداً     وآلاً وأصحاباً فيا سعد ميّتِ
وشِراعُ السفينة: ما يرفع فوقها من ثوب لتدخل فيه الريح فيُجْريها. ومن ذلك الشّريعة، وهى مورد الشَّارِبة الماء. واشتُقّ من ذلك الشِّرْعة فى الدِّين والشَّريعة. قال الله تعالى ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً﴾ المائدة 48، وقال سبحانه ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ﴾ الجاثية 18.
اللهم صلنا بهم ونحن نعتلى أمواج بحر محبتهم إلى حيث شهود حضرة ذاتك واجعل سيدنا محمد  حبيبك ومصطفاك راضياً علينا وعلى كل إخوتنا وأخواتنا وكل سالك إليك على نهجك وشرعتك التى ارتضيت.

تعليقات